في عام 1995، كان في العالم 800 مليون شخص في فئة العاطلين عن العمل وفئة العمل في دوام جزئي لا يستغل كل كفاءاتهم ووقتهم. واليوم، يندرج في إحدى هاتين الفئتين أكثر من مليار إنسان! حتى في أميركا وأوروبا، هناك الملايين من العمال الذين يجدون أنفسهم في الفئة الثانية مع من يحدوهم أمل ضعيف بالحصول على وظائف بدوام كامل. فأين اختفت كل هذه الوظائف؟!
لقد درجت موضة إلقاء المسؤولية عن معدلات البطالة المرتفعة على الشركات التي تقوم بنقل منشآتها الانتاجية إلى الصين. صحيح أن قطاع التصنيع في الاقتصاد الصيني منطلق في فورة الازدهار، لكن هل يعني هذا أن الصين تتحمل المسؤولية عن مشكلة البطالة المتفاقمة في أصقاع أخرى من العالم؟. الجواب يأتي بكلمة (لا)·
وعلى رغم اضطلاع الصين بإنتاج وتصدير نسبة مئوية ضخمة من البضائع والسلع المصنّعة، إلا أن دراسة جديدة أجرتها مؤسسة (أللاينس كابيتال فاند) تؤكّد أن الوظائف في القطاع الصناعي تتعرض للإلغاء بسرعة تفوق سرعة إلغائها في أي بلد آخر؛ وما بين عام 1995 وعام 2002، خسرت الصين أكثر من 50 مليون وظيفة في ميدان الصناعة، أي ما يعادل 15% من إجمالي قوتها العاملة في هذا الميدان. بل إن في الجعبة المزيد من الأنباء السيئة التي لا تسر الخاطر، فقد ذكرت الدراسة المذكورة أنه تم إلغاء 31 مليون فرصة عمل في قطاع التصنيع ما بين عام 1995 وعام 2002 في أكبر 20 اقتصاداً في العالم. ويضاف إلى ذلك أن التوظيف في الميدان الصناعي قد تقلص في كل سنة من السنوات السبع الماضية في كل منطقة من مناطق العالم. وقد حدث ذلك التدهور في غضون الفترة ذاتها التي شهدت ارتفاع وتيرة الإنتاج الصناعي بمقدار يفوق 30% غير أن عدد الوظائف في القطاع الصناعي قد انخفض في جميع أنحاء العالم بمقدار يفوق 11%·
وإذا تواصل التناقص الحالي- علماً بأن من المرجح أن يتسارع- فإن عدد الوظائف في الميدان الصناعي سوف يتضاءل وينخفض من 164 مليون وظيفة، وهو عددها الحالي، إلى بضعة ملايين فقط بحلول عام 2040، ليضع نهاية لحقبة العمالة الصناعية الضخمة التي تعج بها المصانع في العالم.
وتعاني قطاعات الخدمات والقطاعات التي تتطلب ظهور العاملين بمظهر أنيق ولا تتطلب القيام بجهد يدوي (أي الأعمال غير اليدوية، تمييزا ً لها عن العاملين في الميدان الصناعي) من خسائر مشابهة في الوظائف مع انطلاق التكنولوجيات الذكية في مسارها نحو احتلال وظائف المزيد والمزيد من العاملين. وهنا نجد المثال العملي المعبر في قطاعات البنوك والتأمين وتجارة الجملة وتجارة التجزئة، إذ أنها كلها تطرح الآن التكنولوجيات الذكية لاستخدامها في كل أوجه نشاطاتها وعملياتها ولتلغي وبسرعةٍ ضرورة توظيف أفراد في مجالات دعم الزبائن والعملاء والمتعاملين.
ويتوقع المراقبون المعنيون أن يلقي تقلص عدد تلك الوظائف بظله على التناقص في عدد وظائف الميدان الصناعي على مدى العقود الأربعة المقبلة، وذلك مع سير الاقتصاد العالمي ككل والشركات وقطاعات بأكملها نحو الارتباط والترابط في شبكة عالمية عصبية واحدة.
فلماذا يختفي هذا العدد الهائل من الوظائف؟ لقد أدت الزيادات الدراماتيكية في الإنتاجية إلى إتاحة المجال أمام الشركات لإنتاج كم أكبر بكثير من السّلع بعدد أقل بكثير من العمال. وقد خرج الآن من دائرة الصحّة ذلك المنطق القديم الذي يقول إن مكاسب التكنولوجيا والتقدمات الحاصلة في الإنتاجية تؤدي إلى القضاء على الوظائف القديمة لكنها تخلق الكثير من الوظائف الجديدة. فالولايات المتحدة تتمتع منذ عام 1950 بأكبر معدل لتزايد الإنتاجية في العالم كله. وفي الربع الأخير من العام الجاري، حلّقت الانتاجية في ارتفاع مذهل بلغ معدله 9.4%، غير أن أرقام البطالة بقيت مرتفعة ولم يطرأ عليها تغيير.
لطالما نظر المعنيون إلى الانتاجية باعتبارها محرك خلق الوظائف والرخاء، ولطالما ساق الاقتصاديون في نقاشاتهم حجة مفادها أن الانتاجية تتيح للشركات إنتاج كمّ أكبر من السّلع والخدمات بتكاليف أقل، حيث تؤدي السّلع والخدمات الأرخص بدورها إلى تحفيز الطلب عليها، فيؤدي تزايد الطلب إلى مزيد من الإنتاج والخدمات وإلى ارتفاع أرقام الانتاجية، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تحقيق تزايد أكبر في الطلب، وهكذا دواليك في دورة لا تنتهي ولا تنقطع.
وهكذا، حتى إذا أدى قدوم الاختراعات والمبتكرات التكنولوجية الجديدة إلى خروج بعض العاملين من وظائفهم إلى دائرة البطالة في المدى القصير، فإن فورة الارتفاع المفاجئ القصير الأمد في حجم الطلب على السّلع والمنتجات والخدمات الأقل تكلفة والأرخص ثمناً سيضمن توظيف المزيد من العمالة بمعدلات ثابتة لتلبية متطلبات دورات الانتاج التي تزداد اتساعاً. وحتى إذا تمخضت التقدمات التكنولوجية عن تسريح أعداد كبيرة من العمال، فإن صفوف العاطلين عن العمل سوف تتضخم وتنتفخ فتتقلص أمامها الأجور إلى درجة أن إعادة استخدام العمال أنفسهم من جديد ستكون أقل تكلفة من الاستثمار في العمالة الجديدة على سبيل ادخار التكنو