تجمع مختلف الروايات على أن الوحي انقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم مدة من الزمن، بعد أول ما نزل عليه منه (اقرأ باسم ربك الذي خلق...)، ولكنها تختلف في تقدير مدة هذا الانقطاع أو "الفتور"، والمشهور أنها أربعون يوما، وهناك من قدرها بسنتين أو سنتين ونصف. والظاهر أن ما أثاره انقطاع الوحي من ردود فعل– كما سنرى- لا يستقيم مع تقدير دوام فترة الوحي أربعين يوما فقط. أضف إلى ذلك أن ترتيب السور حسب النزول تعترضه مشاكل مع هذا التقدير. ولذلك فنحن نرجح الرواية الثانية.
وهناك رواية عن ابن عباس جاء فيها: "أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة، سبع سنين يرى الضوء ويسمع الصوت، وثماني سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشر سنين". هذا ومعلوم أنه عاش ثلاثا وستين سنة. فإذا أسقطنا السنوات العشر التي عاشها في المدينة والخمس عشرة سنة التي ذكرها ابن عباس فإن بداية "مرحلة الضوء والأصوات" ستمتد من الثامنة والثلاثين إلى حوالي الخامسة والأربعين من عمره. وإذا أخذنا بالرواية التي تفيد أن رؤيا لقائه الأول مع جبريل ونزول سورة "اقرأ" قد حدثت في الثانية والأربعين من عمره ثم انقطع اتصال جبريل به بعد ذلك لمدة سنتين ونصف، أو نحو ذلك، فإن مرحلة الوحي المتواصل ستنطلق وهو في نحو الخامسة والأربعين من عمره، وهو ما تذهب إليه بعض الروايات.
هذا ويمكن الجمع بين هذه الروايات بالقول إن محمدا بن عبد الله قضى في التحنف بغار حراء سبع سنين تلقى خلالها من جبريل، أثناء رؤيا منامية، الآيات الخمس الأولى من سورة العلق (اقرأ باسم ربك)، ثم بعد سنتين ونصف من تلك الرؤيا المنامية استأنف الوحي بالآيات الأولى من سورة المدثر التي تدعوه إلى الشروع في القيام بالدعوة "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ" المدثر (1-2)، وعمره حينذاك قريب من خمس وأربعين سنة.
ومهما يكن من أمر فإن حدث الوحي المحمدي ما كان ليمر دون أن يحدث ضجة في مكة التي كانت الحياة فيها موسومة بالتنافس والصراع بين القبائل الساكنة فيها، خصوصا بين بني هاشم وبني عمهم بني أمية) الذين كانوا يتقاسمون الزعامة في قريش مع بني مخزوم.
فعلا تؤكد مصادرنا أن منافسي بني هاشم وخصومهم استغلوا فرصة انقطاع الوحي عن النبي عليه السلام لإبداء ما في صدورهم من الحقد عليهم بسبب ظهور نبي منهم. ولا بد أن يكون انقطاع الوحي أو "فتوره" قد استمر مدة طويلة (نحو سنتين) كي نفهم ما أحدثه من اضطراب حتى بين بعض أقارب النبي نفسه، بما في ذلك زوجته خديجة: فقد خاطب بعضهم النبي عليه السلام مستعملين عبارات جارحة من مثل قولهم: "ما أرى ربك إلا قد قلاك" أي تركك وتخلى عنك، ويروى أن خديجة زوجته قد عبرت له عن مثل ذلك. أما غير الأقارب فلم يخفوا السخرية منه والاستهزاء به... الشيء الذي كان لابد أن يثير القلق والأسى والألم في نفس النبي الأمي.
فعلا، تذكر الروايات في هذا الصدد أنه صلى الله عليه وسلم حزن حزنا شديدا، ليس بسبب تشفي خصومه وسخريتهم فحسب، بل أيضا بسبب غيبة جبريل وانقطاع الوحي عنه. وتذكر المصادر أنه قد بلغ به القلق كل مبلغ: "حتى كان يغدو إلى ثبـير (جبل بمكة) مرة، وإلى حراء مرة، يريد أن يلقي نفسه منه".
وهناك على رؤوس الجبال، بينما كان ذات مرة يتنقل بينها آملا أن يكلمه جبريل مرة أخرى، إذا بهذا الملك "يتبدَّى له ويقول: أنت نبي الله"، ثم يختفي، فأصابه الرعب من جديد... فأسرع عائدا إلى بيته ودخل على زوجته خديجة وهو يقول: "دثروني، دثروني وصبوا علي ماء"، ففعلت. وتقول أشهر الروايات إنه في هذا الوضع، وضع المستلقي المغطى بثوب، نزلت عليه سورة "المدثر" (والمقصود الآيات الأولى منها: "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِر،ْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ (الأصنام) فَاهْجُرْ"، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (لا تستكثر ما تعرضت له ولا تمنن ذلك)، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ" (المدثر 1-7)، وبذلك تكون هذه السورة هي الثانية في ترتيب النزول، بعد سورة العلق (اقرأ باسم ربك). وفي رواية أخرى أن السورة الثانية في ترتيب النزول هي سورة "القلم"، أعني الآيات الأولى منها التي ترد على الذين اتهموه بالجنون، وهي قوله تعالى: "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ -بِنِعْمَةِ رَبِّكَ- بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ، بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (القلم 1-7).
بعد ذلك تنزل سورة "الضحى"، تسليه وتثبت فؤاده وترد على الذين قالوا، عندما تأخر الوحي عنه، إن ربه قلاه وتخلى عنه. قال تعالى: "وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (وما تخلى عنك)، وَللآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (مات أبوه وهو في بطن أمه