في أواخر السنة السادسة للهجرة قرر الرسول عليه الصلاة والسلام الذهاب إلى مكة للقيام بالعمرة، وكانت ما تزال مقرا لقريش، فتجهز لذلك وانطلق في موكب مسالم فاعترضت قريش طريقه، ثم قرر الطرفان التفاوض فكان الاتفاق المعروف بـ''صلح الحديبية''، وينص على وقف الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنوات (فتح المسلمون مكة قبل ذلك)، وعودة الرسول ذلك العام بدون عمرة على أن يأتي في العام الموالي فيدخل مكة بعد أن تخرج منها قريش فيقيم فيها ثلاثة أيام يؤدي خلالها مناسك العمرة·
لقد كان هذا الاتفاق بمثابة اعتراف ''دبلوماسي'' من طرف قريش بالنبي عليه السلام كرئيس جماعة تشكل دولة في المدينة، دار هجرته· اغتنم الرسول حصول هذا الاعتراف فكتب رسائل إلى ملوك ورؤساء الدول المجاورة يدعوهم فيها إلى الإسلام· ومن خلال رد الفعل الإيجابي لرسائل النبي صلى الله عليه وسلم، إلى كل من هرقل إمبراطور الروم والمقوقس حاكم الإسكندرية يتضح بجلاء أن حركة ''الموحدين'' الأريوسيين كانت متغلغلة في هذه المناطق، ليس في الأوساط الشعبية فحسب، بل أيضا في الأوساط الرسمية، من رجال الدولة ورجال الدين·
وفيما يلي نصوص بعض هذه الرسائل، وفي مقدمتها رسالة النبي إلى هرقل التي ذكر فيها بصريح العبارة اسم ''الأريسيين''·
1 - نص رسالة النبي إلى هرقل: ''بسم الله الرحمن الرحيم· من محمد عبدالله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم· سلام على من اتبع الهدى· أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين· فإن توليت فعليك إثم الأريسيين· و''يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ'' (آل عمران 64)· وقد تم العثور على النسخة الأصلية لهذه الرسالة، وبجانبها صورة منها (نفس المرجع المذكور في المقال السابق)·
ويمكن أن تقرأ هكذا: الأَرْيُسِين· نسبة إلى أريوس·
وما يهمنا هنا الآن هو كلمة ''الأريسين'' الواردة في هذه الرسالة· ذلك أن المفسرين اضطربوا في شرح معنى هذه الكلمة (التي قرؤوها بفتح الهمزة وكسر الراء والسين وتشديد الياء الأولى: الارِيـسِـيّـِين) وقد فسرها معظمهم بـ''الأكارين'' أي ''الفلاحين''· وعلى هذا الأساس جعلوا معنى قول النبي ''فإن توليت فعليك إثم الأريسيين'' كما يلي: ''وإن لم تدخل في الإسلام فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام''! وبعضهم قال: ''الأريسيون العشارون يعني أهل المكس''· وآخرون رووا العبارة هكذا ''عليك إثم الفلاحين'' الخ· هذا في حين أن الصواب يقتضي قراءة هذه الكلمة كما يلي: ''أرْيُسِـيِّـين'' (فتح الهمزة وسكون الراء وضم الياء الأولى· نسبة إلى أريوس)· وقد خيل إلينا في بداية الأمر أن أي أحد لم ينتبه إلى هذا المعنى، ولكننا عندما عدنا نراجع مصادرنا المختلفة انتبهنا إلى أن ''لسان العرب'' ذكر من جملة آخر ما ذكر بصدد هذه الكلمة قوله: ''وقيل: إِنهم أَتباع عبداللَّه بن أَريس''· كما وجدنا في ''فتح الباري بشرح صحيح البخاري'' لابن حجر العسقلاني (كتاب التفسير) ما نصه: ''···وحكى غيره أن الأريسيين ينسبون إلى عبدالله بن أريس: رجل كانت النصارى تعظمه ابتدع في دينهم أشياء مخالفة لدين عيسى(···) وذكر ابن حزم أن أتباع عبدالله بن أريس كانوا أهل مملكة هرقل''·
وهكذا فرسالة النبي إلى هرقل تنطوي على دليل قاطع على أنه عليه السلام كان يدرك، عندما بعث رسالته تلك، أن كثيرا من المنضوين تحت إمبراطورية هرقل هم من ''الموحدين'' أتباع مذهب أريوس، ولذلك حمّله مسؤولية الإثم الذي يترتب عليه إذا هو لم يسلم، لأن عدم إسلامه سيحول دون إسلام رعيته·
2- كبير أساقفة الروم ''ضغاطر'' أريوسي آخر يسلم: هناك خطأ مماثل وقعت فيه مصادرنا في حكايتها لرد فعل هرقل على رسالة النبي عليه السلام· فقد ذكر ابن اسحق وغيره أن هرقل أجاب مبعوث الرسول إليه، واسمه دحية بن خليفة قائلا: ''إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته، فاذهب إلى ''ضغاطر'' الأسقف، فاذكر له أمر صاحبكم فهو والله أعظم في الروم مني، وأجوَز قولا عندهم مني، فانظر ما يقول''· وتضيف الرواية أن دحية ذهب إلى ''ضغاطر'' هذا فأخبره بما جاء به من رسول الله إلى هرقل وبما يدعوه إليه فقال ضغاطر: ''صاحبك والله نبي مرسل نعرفه بصفته ونجده في كتبنا باسمه''· ثم دخل فألقى ثيابا كانت عليه سودا ولبس ثيابا بيضاء ثم أخذ عصاه فخرج على الروم وهم في الكنيسة فقال: ''يا معشر الروم إنه قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا فيه إلى الله عز وجل· وإني أشهـد أن لا إلــه إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله''· قــال دحية: ''فوثبوا عليه وثبة رجل واحد فضربوه حتى ''قتلوه'' (كذا!)''· فلما رجــع دحية إلى هرقل وأخبره الخبر قال: ''قد قلـــت لك إنــا نخا