العرب أمة لا تملك اليوم سوى دينها وتاريخها· وإذا ما تركنا الدين جانبا، أتساءل: ما مدى مصداقية التاريخ، الذي يسمى أحيانا بالعربي، وبالإسلامي أحيانا أخرى؟! والذي أقصده بهذا السؤال العقلاني، أن الإنسان العربي يأخذ تاريخه كما يأخذ دينه، باعتبار أحداثه من المسلمات التي لا يرى أنها قابلة للشك· وبرغم أن الطبري، شيخ المؤرخين العرب، كما يطلق عليه، يقول في مقدمة كتابه الملحمي، ''تاريخ الرسل والملوك''، إنه لم يعمل بملكة النقد فيما نقله، إلا أن جميع الباحثين يأخذون أحداثه بدون جدال، وبقبول شبه مطلق وكأنها حدثت حقيقة، في حين أنه يفترض أن الأحداث التاريخية غير الموثقة بأدلة مادية يجب أن ينظر بشأنها من خلال الشك لا اليقين، وأن يتم التعامل معها بحذر· هذا على رغم أمانة الطبري الذي اعترف باحتمال عدم منطقية ما كتبه من أحداث تاريخية، بل وبدا وكأنه يطالب الآخرين بالقيام بما عجز عن القيام به، من نقد لاحق لما دَوَّن من أحداث تاريخية، لا يعلم سوى الله، مدى صدقها·
ومن طريف ما يروى أن الطبري عرض على مريديه كتابة التاريخ منذ خلق آدم، عليه السلام، في مئة ألف صفحة، فتكاسلوا قائلين، إن هذا العمل مما تفنى به الأعمار، فاشتكى قائلا: ماتت الهمم!! فوضعه في ثلاثين ألف ورقة، ولا يعلم سوى الله كيف حفظت هذه الأوراق في الأجواء الحارة للبلاد العربية· ومما يلاحظ أن ناسخ تاريخ الطبري ومحققه! لم يضمن الكتاب بعد طباعته أي صورة عن المخطوط· وكل الذين جاءوا بعد الطبري نقلوه كما هو ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث العلمي في مدى مصداقيته، فنقلوه كما هو، وهو عين ما فعله الباحثون العرب اليوم·
كأستاذ جامعي وكباحث، لا أرى أن التاريخ غير الموثق يمثل الذاكرة التاريخية لأي أمة من الأمم· بل إن التاريخ ليس ضروريا لبناء الحاضر والمستقبل، كما هو حال الولايات المتحدة الأميركية اليوم· ومن الملاحظ أن من يملك التاريخ لا يملك المستقبل، ذلك أن أدوات المستقبل ليست متوفرة في التاريخ·
وفي جميع الأحوال يجب عدم تقديس التاريخ، هذا التقديس الذي وصل لدى البعض إلى مرحلة التوثين· وهذا الأمر لا يكون إلا من خلال التعليم الرسمي من جهة، ومن خلال الأسرة التي يجب أن تعاضد التعليم الرسمي في عدم ترسيخ القداسة لهذا التاريخ· وإذا التمسنا العذر الكاذب لمدرسي التعليم لما قبل التعليم الجامعي، فلا عذر لمن هم في التعليم الجامعي·
يفترض، نقول يفترض، أن الجامعة مكان ليس لنشر العلم، بل لترسيخ المعرفة واستخدام أدوات البحث العلمي لنبش التساؤلات الفكرية في مختلف مجالات العلوم الإنسانية، وحث الطالب على إثارة الأسئلة، وليس الانتظار على مقاعد الدراسة لتلقي الإجابات الجاهزة من ذلك الإنسان الذي افترضنا فيه، وهماً، أنه يعرف كل الإجابات، المسمى ''دكتور''· فالمشاكسة أساس العلم، وتحفيز العقل لا يأتي من خلال الاستكانة، بل من خلال إثارة الأسئلة غير المرغوب في إثارتها· ولا يوجد مثل التاريخ مجالا لإثارة الأسئلة الكامنة، تلك التي يخاف كل منا حتى مجرد طرحها، فضلا عن الخوض فيها· وليس من قبيل المبالغة في شيء القول إن الجامعات العربية، أدنى، علميا، من أن تسمى جامعة، بل هي أقرب ما تكون إلى ثانوية عليا، وليس في هذا أي تجن عليها·
التاريخ يفقد مصداقيته إذا ما أخذ كمسلمة لا جدال فيها، بل ولا تعود له أي قيمة علمية· ولهذا السبب، أي سبب تقديس التاريخ، تجد أن الأطروحات العلمية المعروفة برسائل الماجستير والدكتوراه في العلوم الاجتماعية في الجامعات العربية، لا تتضمن أي قيمة معرفية، بل هي تكرار ممل لما هو موجود في كتب التاريخ السقيمة، التي لم تخضع لعين العقل إلى اليوم·
إن مصداقية التاريخ العربي- الإسلامي تحتاج إلى إثارة الشك فيها أولا، الشك العقلي المعروف بالشك الديكارتي الذي استخدمه عميد الأدب العربي يوما ما، ثم تراجع عنه حين اقتربت السكين من رقبته، فآثر السلامة، غفر الله له هذه الجناية، على العقل·