يعرف الذين تابعوا الانتخابات التشريعية الفلسطينية عن كثب منذ بداية حملاتها الدعائية أن استطلاعات الرأي العام قد أجمعت على أن ''حماس'' سوف تحقق فيها إنجازاً كبيراً يضعها على الأقل في مرتبة تالية -وإن قريبة للغاية- من ''فتح'' بل إن تقارير نسب بعضها لـ''فتح'' نفسها والبعض الآخر لجهات إسرائيلية لم تستبعد فوز ''حماس'' وإن لم ترجحه وذلك استناداً إلى عدم الرضا الذي ساد أوساط الفلسطينيين من سوء أداء السلطة الفلسطينية والذي أدى إلى تفاقم مشكلات الفقر والبطالة ناهيك عن الفساد· ولقد أفضى شعور عدم الرضا هذا إلى استخلاص مؤداه أن من أعطوا أصواتهم لـ''حماس'' لم يكونوا بالضرورة من أنصارها وإنما كانت نسبة منهم على الأقل تعاقب بسلوكها التصويتي ممثلي السلطة على ما فعلوه -وكذلك ما لم يفعلوه- في السنوات الطويلة التي مارسوا فيها سلطتهم·
لذلك كله فإن المفاجأة أو ''الزلزال'' الذي سببته نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة في فلسطين لم يكن مرده فوز ''حماس'' بحد ذاته وإنما حجم هذا الفوز الذي أعطاها 76 مقعداً في المجلس التشريعي مقابل 43 لـ''فتح'' مما وفر لـ''حماس'' وحدها الأغلبية المطلقة الكافية لتشكيل حكومة وإن لم يعطها أغلبية الثلثين الضرورية لإدخال تغييرات في النظام الأساسي الفلسطيني، ومما يزيد من حجم هذا الإنجاز أن نسبة المشاركة في التصويت قد وصلت إلى 77% لتكون بذلك من أعلى نسب المشاركة في العالم·
وعلى الرغم من أن الكثيرين قد تحدثوا عن ''المفاجأة'' و''الصدمة'' و''الزلزال'' فإن المرء يشك أن الجميع على بينة حقيقية من الدلالة الخاصة لدرجة التغيير وحجم الأزمة التي تمثلها تلك النتيجة· أشك بدايةً أن تكون لانتصار ''حماس'' سابقة مماثلة في حركات التحرر الوطني: أن تفوز حركة مقاومة مسلحة في انتخابات تجرى في ظل الاحتلال· عرفنا في بعض الحالات سوابق لفوز قوى وطنية مناهضة للاحتلال في انتخابات مماثلة كفوز ''الوفد'' المصري في الانتخابات التشريعية المصرية ،1924 لكن ''الوفد'' لم يكن حركة مقاومة مسلحة، وعرفنا في حالات أخرى مشاركة حركات مقاومة مسلحة في الانتخابات وفوزها بعدد من مقاعد السلطة التشريعية كحالة ''حزب الله'' في لبنان، لكن حجم الفوز لم يتح لهذه الحركات أي سيطرة على المجلس التشريعي ناهيك عن أن لبنان كدولة ليس خاضعاً للاحتلال أصلاً· وكشف معظم السوابق عن أن شرطاً من شروط المشاركة في الانتخابات هو نبذ المقاومة المسلحة أو العنف كما يقولون مثلما حدث في الانتخابات العراقية في ظل الاحتلال الأميركي، ولذلك فإن تلك الانتخابات -وإن أوصلت بعض العناصر المناوئة للاحتلال إلى مقاعد السلطة التشريعية- لم يكن بمقدورها أن تدخل عناصر المقاومة في بنية السلطة أو أن تغير من التوجه السياسي العام لنظام الحكم، لكن السماح بدخول قوة مقاومة مسلحة الانتخابات وفوزها بالأغلبية المطلقة أمر جديد على الخبرة التاريخية لحركات التحرر الوطني ويثير من الإشكاليات والأزمات ما قد لا يخطر على البال من الوهلة الأولى بقدر ما يمثل وساماً على صدر ''حماس''·
وأول ما يجب التوقف عنده أن نتيجة الانتخابات وتوابعها حتى الآن لم تحل أزمة النظام السياسي الفلسطيني كما ينبغي أن تُحل في ظل ظروف الاحتلال الإسرائيلي· قبل الانتخابات كان هذا النظام يعاني من أن إطاره السياسي (سيطرة ''فتح'' على مؤسساته) لم يعد يتلاءم والجسد السياسي الفلسطيني الذي شهد -وبصفة خاصة بعد انتكاسة عملية التسوية السياسية في أعقاب أوسلو وكذلك بعد تفجر انتفاضة الأقصى في2000- صعوداً واضحاً لقوى سياسية على رأسها فصائل المقاومة الإسلامية وفي القلب منها ''حماس''، وإذا كانت ''الدولة'' في لبنان قد وفقت أوضاعها مع مقاومة ''حزب الله'' فسارا جنباً إلى جنب حتى تحقق إنجاز التحرير الضخم في مايو ،2000 فإن ''السلطة'' في فلسطين لم تكن كذلك، وبقي التناقض بين فعل السلطة وفعل المقاومة ظاهراً يخفت حيناً ويقوى حيناً آخر لكن مشهد إدانة السلطة لعمليات المقاومة بدا مألوفاً في الساحة الفلسطينية·
وعليه فإن الأمل كان معقوداً على أن تفضي الانتخابات إلى خريطة سياسية فلسطينية جديدة تعكس بأمانة معالم الجسد السياسي الفلسطيني بما يفضي إلى وصول كافة القوى السياسية الفلسطينية الفاعلة إلى دوائر صنع القرار ويتيح فرصة من ثم لتحقيق وحدة وطنية فلسطينية تبدو الحاجة ملحة إليها في الظروف الراهنة للنضال الفلسطيني· لكن نتيجة الانتخابات استبدلت قوة بقوة ونهجاً بنهج فوضعت ''حماس'' في مكان ''فتح'' بمعنى أن القرار الفلسطيني سوف يكون بيد الأولى وحدها ولو نظرياً· وكان الوضع الأمثل أن تفضي الانتخابات إلى قوتين كبيرتين متوازنتين لا تحوز إحداهما الأغلبية المطلقة بما يجبرهما على التعاون ويقترب بهما من حكومات الوحدة الوطنية أو على الأقل يدفعهما إلى محاولة بناء تحالفات تتجاوز الأطر السياسية لكل منهما·
ومن الحقيقي أن أولى رسائل ''حماس'' إلى الساحة السياسية الفلسطينية كانت هي رسالة ''المشاركة''، لكنه