من المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام قرر تهجير أصحابه إلى الحبشة، في السنة الخامسة للنبوة، عندما تعاهدت قريش ضده وحاصرته هو وقرابته من بني هاشم في شِعب بالجبل في ملك عمه أبي طالب· وفي هذا الصدد تذكر مصادرنا أنه لما رأى عليه السلام وضعية الحصار المضروب عليه قال لأصحابه الذين اشتد عليهم أذى قريش: ''لو خرجتم إلى أرضِ الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظْلَم عنده أحدٌ، وهي أرضُ صدقٍ، حتى يجعلَ اللّهُ لكم فرجاً مما أنتم''·
وتورد مصادرنا نص الرسالة التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي (=الملك بلغة الحبشة) يخبره فيها بأنه بعث إليه هؤلاء المهاجرين، وعلى رأسهم ابن عمه جعفر بن أبي طالب، وأوصاه بالاهتمام بهم· وتلك رسالة رددت مصادرنا القديمة نصها ثم اكتشفت في القرن الماضي كوثيقة تاريخية لا غبار عليها· وهذا نصها:
''بسم الله الرحمن الرحيم· من محمد بن عبد الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة· سِلم أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول، الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه الله من روحه ونفخِه، كما خلق آدم بيده ونفخه· وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله· وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا، ونفرا من المسلمين، فإذا جاءك فأقْرِهم (أحسن ضيافتهم)، ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله، فقد بلغت ونصحت، فاقبل نصحي· والسلام على من اتبع الهدى''· (هنالك صورة شمسية لوثيقة هذه الرسالة، كما اكتشفها المستشرق د·م دنلوب ونشرها عام ·1940 أوردها كتاب محمد حميد الله ''مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة''· دار النفائس بيروت ·1985 هذا ونشير إلى سقوط عبارة ''بعثت إليك'' من هذه الوثيقة··· والنص الذي أثبتنا هو المتداول في جل المصادر)·
كما تورد مصادرنا رد النجاشي بالرسالة التالية:
''بسم الله الرحمن الرحيم
إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن أبجر·
سلام عليك يا نبي الله ورحمته وبركاته، من الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام· أما بعد: فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثُفْرُوقا، إنه كما قلت· وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعت لابن عمك وأصحابه وأسلمت على يديه لله رب العالمين''· (يلي ذلك فقرة، وردت في النص الذي أوردته بعض المصادر، يخبر فيها أنه بعث إلى النبي ابنه أرها (كذا) وأنه مستعد للمجيء إليه هو نفسه···''، وهي فقرة من رسالة أخرى لاحقة بعثها النجاشي إلى النبي بمناسبة عودة المهاجرين إلى المدينة (كما سنبين في مقال قادم)· ولا يمكن أن تكون تلك الفقرة جزءا من الرسالة أعلاه لأن هذه أرسلها النجاشي إلى النبي وهو ما يزال في مكة محاصرا مضطهدا· وعودة المهاجرين تمت والنبي في المدينة·
هذا من جهة، ومن جهة أخرى ذكر ابن إسحاق أن رجال الدولة وقساوستها في الحبشة قالوا للنجاشي عندما أعلن إسلامه على وفد المهاجرين إليه: ''إنك قد فارقت دينَنا''، وخرجوا عليه· فلما قام لمحاربتهم ''أرسل إلى جعفر وأصحابه، فهيأ لهم سُفناً، وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإذا هُزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا''·
وإلى ذلك تذكر مصادرنا أن النجاشي بعث وفدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتألف من اثني عشر رجلاً من الحبشة، وسبعة قسيسين، وخمسة رهبان، ينظرون إليه ويسألونه، فلما لقوه، وقرأ عليهم ما أنزل الله عليه بكوا وآمنوا به ورجعوا إلى النجاشي· وتفيد روايات أخرى أنه لما نعي النجاشي إلى الرسول عليه السلام وهو بالمدينة قال لأصحابه: ''قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي''، فقال بعضهم لبعض: ''يأمرنا أن نصلي على علج من الحبشة''؟! فأنزل الله تعالى: ''وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ'' (آل عمران 199)·
ما يلفت النظر هنا هو أن العلاقة بين النبي عليه السلام والنجاشي تتحدد في هذه الرسالة من خلال الموقف من عيسى وأمه مريم! ولو لم يكن الرسول يعلم أن النجاشي لا يقول بألوهية عيسى أو بنوته للإله، بل يقول بما قال به أريوس وأتباعه، وغيرهم ممن أنكر التثليث، لما أكد على ذلك في رسالته· إن هذا يعني أن النجاشي الذي كان يدين بالنصرانية كان أريوسيا حنيفيا، بينما بقي رجال الكنيسة في بلده من أصحاب التثليث·
والجدير بالذكر هنا أن العلاقة بين ملوك الحبشة وبين رجالات بني هاشم من جدود النبي ترجع إلى عهد قصي جدهم الأول الذي تولى الزعامة في مكة في القرن الخامس الميلادي، أي ف