في أي حقول تصرف فوائض عائدات النفط الحالية؟ قسم ضخم منها يبدّد على بناء ما يعرف بمدن ما بعد الحداثة! وهذا يستوجب الشرح والتوضيح؛ فعبر القرون الثلاثة الماضية ارتبط تخطيط المدن بالنظام الاقتصادي، فمدن مرحلة الرأسمالية الأولى التي كانت تحكمها البضاعة المنتجة والمصنعة تختلف عن مدن المرحلة الرأسمالية الثانية المروجة للاستهلاك النّهم للسلع والخدمات، وهذه المدن بدورها تختلف عن مدن الطور الحالي من الرأسمالية والتي بدأت منذ سقوط جدار برلين، وتوصف برأسمالية الخيال والوهم (Fiction Capitalism) التي تركّز على الفرد نفسه لتسيطر على أحاسيسه ونفسيته وعقله من خلال خلق حالة واقع آخر لا يمت بصلة لواقع الحياة الحقيقي ولكنه يقدم كبديل أفضل وأحسن وأرقى!
مجتمعات الخليج، رسميه وخاصة، رفضت وعجزت عن الاندماج في رأسمالية صناعية منتجة، فقفزت إلى آخر الصيحات الرأسمالية وتبنّت أولاً رأسمالية الاستهلاك النّهم بصورة أقوى مما هو في أميركا وأوروبا، وكمّية القمامة التي يلقيها الفرد الخليجي يومياً، وهي الأعلى في العالم، تشهد على هذا التميُّز والسّبق الخليجي في ممارسة الرأسمالية الاستهلاكية وحرق كل المدّخرات في مظاهر ومفاخر· وها هو الخليج المقلّد أبداً، اللاهث وراء كل صرعة مادية حسية، يحاول أن يبزّ مرة أخرى مجتمعات الدنيا في تبنّيه وممارسته لما تطرحه الرأسمالية الجديدة· ولعلّ أفضل مثل على هذا التبنّي المدهش والمفجع هو التسابق في بناء أعداد هائلة من المجمعات السكنية التجارية باهظة التكلفة وبالغة الإفراط في كل وسائل الترف· وهي كلها، وما يقام من بنية تحتيّة من أجلها، ستزفُّ المدينة الخليجية إلى عرس مدينة ما بعد الحداثة·
أول ما يميز تلك المدن هو المجمّعات السكنية التي لا علاقة لها بالمدينة المحيطة بها؛ لا بتاريخها ولا بسكانها ولا بمشاكلها اليومية· فهي مجمعات ستسكنها جماعات متماثلة في الثروة وفي الذوق وفي الثقافة·
فإذا كنت تستطيع أن تشتري بيتاً أو شقّة بمليون دولار أو أكثر فإنك تستطيع الانتماء إلى المجمع وإلا فاسكن في مكان ما في أرجاء المدينة خارج أسوار المجمع· والمجمع سيغنيك عن الحاجة للمدينة: فهو سيضم وسائل للتسوق وللأكل ولممارسة الرياضة وللتنزُّه الهادئ في حدائق غناء ولتعليم الأولاد ولأماكن عمل إن شئت، وهو سيكون محروساً من قبل حراس خاصّين لا دخل لهم بشرطة المدينة ومن قبل أحدث الكاميرات التي ستتابع كل حركة في المجمع· وخلافاً للأحياء البشرية المعتادة لن يستطيع أحد دخول تلك المجمّعات إلا إذا كان يحمل بطاقة خاصة ممغنطة· وسيحكم المجمعات نظام يتعلق بحركة السيارات وبالضوضاء وبأماكن لعب الأطفال بحيث أن إزعاجات المدينة ستنتهي ومناظر الفقراء والمتسولين المثيرة للاشمئزاز ستختفي· وإذا كان التماثل اليوم هو في الثروة فإن بالإمكان أن يصبح في الغد تماثلاً في أمور أخرى: مجمعات لجنسيات محددة، لأناس متقاربين في العمر، لعزاب، لمتقاعدين، لعاملين في حقل تخصصي واحد··· إلى آخر الفذلكات العبثية·
وما دام الخليج يفتح ذراعيه مرحّباً بالعولمة وبكل متطلباتها فتلك المجمعات ستكون في الأساس، ليس لأبناء المدينة، وإنّما لجحافل السّياح والقادمين من وراء البحار الذين ينشدون المتعة والابتعاد عن آلام واقع الحياة ومصائبها·
لكن مدن ما بعد الحداثة الخليجية لن تقف عند الهوس بوضع ثروات هائلة في مجمعات الأحلام والخيالات الجامحة، فبعضها سيشبه السكن في مدينة فينيسيا الإيطالية أو مدينة لاس فيجاس الأميركية أو باريس الفرنسية، وإنما سينتقل الحال إلى كل ما تبقى من مساحات مدن الخليج لإدخالها في متطلبات رأسماليّتي الاستهلاك والوهم وهو ما سنفصّله في مقال قادم· أما رأسمالية الإنتاج والصناعة والتكنولوجيا والزراعة والأبحاث المتطورة والبشر المنتجين الجديين فإنها ستترك للآخرين· وبعبقرية الهلوسة هذه نعدُّ لحقبة ما بعد البترول!