عندما كنا نعمل في إعداد كتاب ''صناعة الكراهية في العلاقات العربية- الأميركية'' سألنا الأستاذ الناقد الأدبي الدكتور عبدالعزيز حمودة أن يساهم في الكتاب بدراسة عن العلاقات الثقافية العربية-الأميركية، فاستجاب مشكوراً وجاءت دراسته مزيجاً رائعاً من الثقافة والسياسة· كانت فكرته الأساسية أن العرب قد انبهروا في البداية بالنموذج الأميركي في شموله، ثم جاءت لحظة ''فقدان البراءة'' -كما أسماها- عندما اكتشفوا تناقض السياسة الأميركية مع مصالحهم واتخاذها مواقف عدائية تجاه مطالبهم، لكنهم مع ذلك أبقوا انبهارهم بنموذج الحياة الأميركية، وإن حذر في خلاصة دراسته من أن النهج السياسي الأميركي الراهن تجاه الوطن العربي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ينذر بعبور العرب للفجوة بين رفضهم للسياسة الأميركية واستمرار انبهارهم بنموذج الحياة الأميركية بما يعني أن العداء قد يشمل الأمرين معاً· كتب حمودة دراسته قبل العدوان الأميركي على العراق وتداعياته، وبدا تدريجياً أنها مثلت نوعاً من النبوءة العلمية الصادقة كما اتضح من تطور المشاعر العربية تجاه الولايات المتحدة بعد احتلال العراق·
اتصالاً بهذا المعنى شهدت الساحة الفنية المصرية عديداً من الأعمال التي تتحدث عن الهيمنة الأميركية أو زيف الانبهار بالحلم الأميركي كمسرحية ''ماما أميركا'' أو فيلم ''أميركا شيكا بيكا'' أو مسرحية ''اللعب في الدماغ''، ومن المؤكد أن الساحة العربية على اتساعها قد شهدت أعمالاً مماثلة· في هذا السياق يأتي فيلم ''ليلة سقوط بغداد'' مع اقتراب الذكرى الثالثة للعدوان على العراق واحتلاله ليعبر عن موقف ممتد لعناصر مهمة من النخبة الفكرية والفنية في مصر والوطن العربي تجاه مسألة الهيمنة الأميركية، ويجسد ''فانتازيا'' تجمع بين منتهى الكوميديا وذروة الجدية في الوقت نفسه على النحو الذي وضع سقفاً من الانكسار والألم والمرارة والإحباط للإحساس بالمواقف الكوميدية في الفيلم، ولست بسبيل الحديث عن ''ليلة سقوط بغداد'' كناقد فني بطبيعة الحال غير أن إمعان النظر فيما حمله الفيلم من أفكار وما تضمنه من رسائل تحذير يبدو بالغ الأهمية في الظروف الراهنة التي تمر بها الأمة العربية·
يترجم الفيلم مفهوم الأمن القومي العربي من منظور إنساني بسيط يبدأ بحالة الوجوم والإحباط والحزن التي تسيطر على مجموعة من الشعب المصري المنتمين اجتماعياً إلى الطبقة الوسطى وما دونها عندما يستمع هؤلاء إلى أنباء الهجوم الأميركي على العراق وصولاً إلى سقوط بغداد· ثم يثور التساؤل لاحقاً: ألا يمكن أن يحدث هذا لنا؟ وهو الهاجس نفسه الذي سجله جمال عبدالناصر في كتيبه الشهير ''فلسفة الثورة'' الذي صدر في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي عندما علق بتلقائية كضابط مقاتل في فلسطين على ما ألمَّ بشعبها قائلاً: ''قد يحدث هذا لابنتي''· ومنذ لحظة طرح السؤال يبدأ بطل الفيلم في التعرض لكابوس ليلي تقتحم فيه قوات المارينز منزله، ويتطور الكابوس لاحقاً مع اتساع نطاق التهديدات الأميركية لسوريا وإيران وغيرهما وانكشاف الممارسات اللاإنسانية لقوات الاحتلال في العراق بحيث يتضمن -أي الكابوس- اعتقاله وأفراد أسرته وتعرض ابنته لما تعرضت له فتيات ونسوة عراقيات·
يكشف الفيلم في بلاغة عن عقم المواجهات اللفظية للخطر، فعندما يتظاهر طلاب المدرسة التي يعمل بطل الفيلم ناظراً لها ويطلبون رفع لافتات تندد بالعدوان على العراق يطلب منهم صاحبنا أن يفتحوا القوس ويضيفوا اسم العراق بعد أفغانستان، وعندما يصل التهديد إلى سوريا وإيران يفعل الأمر نفسه، ثم يطلب منهم ألا يقفلوا القوس بعد ذلك انتظاراً لما سيجيء·
ويتساءل صاحبنا ويحاور أصدقاءه: هل نملك سلاحاً رادعاً يحمينا من مصير مماثل؟ ليكتشف الجميع بعد سباحة قصيرة في بحر الأوهام أن الإجابة هي النفي بالتأكيد، ومن هنا تمضي الفانتازيا لتكشف لنا تبديد مقومات الأمن القومي عندما يبدأ صاحبنا في البحث عن عالم يمكنه أن يتوصل إلى أسرار سلاح يردع المعتدين، فيقع اختياره على أحد طلبته السابقين الذي اشتهر بنبوغه العلمي· يعرف أنه واصل تفوقه في كلية العلوم إلى أن تخرج منها فيبدأ رحلة للبحث عنه ليعرض عليه مشروعه، فيجده غارقاً مع غيره من الشباب -من بينهم طلبة من مدرسة صاحبنا- في سحب من دخان المخدرات· مع ذلك فإن صاحبنا يتمكن في النهاية من إقناع الباحث الشاب بمشروعه: أن يرصد كل ما يملكه من موارد لتمويل بحث علمي يهدف إلى إنتاج سلاح ردع يحمي الوطن من الخطر· ولا يكتفي صاحبنا بهذا بل يحيل -مع تعثر محاولات التوصل إلى هذا السلاح- مأوى السيارات في البناية التي يسكن بها إلى ساحة لتدريب أسرته ثم جيرانه على أسلحة متنوعة تحسباً للغزو الأميركي القادم·
الدولة غائبة تماماً في ''ليلة سقوط بغداد''، هي غائبة من منظور الإنجاز لأن أهم إنجازاتها من وجهة نظر الفيلم هو هدف التعادل الذي أحرزه الفريق المصري في مرمى هولندا في نهائيات كأس العالم في عقد التسعينيات من القرن الماضي، وموقفها غ