يوماً بعد يوم تحتشد في سماء المنطقة أدلة جديدة على أن السياسة التي تنتهجها إيران باتت شأناً مثيراً للقلق حقاً، بالنسبة لنا كخليجيين، وبالنسبة للمجتمع الدولي برمته· فعلى رغم مساعي الترويكا الأوروبية، وجهود الوكالة الدولية للطاقة الذرية المتواصلة، ونداءات أكثر من طرف إقليمي ودولي لطهران بتحكيم صوت العقل لضمان أمنها وأمن المنطقة، فإن لغة التشدد بل ورفع قفاز التحدي، ما زالت هي سيدة الموقف، في السلوك السياسي الصادر رسمياً عن إيران، وتمثل هذا في الحدة التي تكتنز بها لغة الرئيس محمود أحمدي نجاد وتصريحاته وخطبه المشحونة بصفة عامة· ولاشك أن استمرار وضع كهذا يدعو إلى إعادة تقييم موضوعي، وجاد، للإسقاطات السياسية المستقبلية للسلوك الإيراني، على أمن منطقة الخليج، يتم التعبير عنها بوضوح، وبطريقة متوازنة توصل للطرف الآخر رسالة سلام وقلق في الوقت نفسه· رسالة عامرة بالنوايا الحسنة، وبمضامين محددة ولا تحتمل تأويلاً ولا تحريفاً، وتلفت انتباه العواصم الإقليمية والدولية إلى أن لنا كخليجيين رأياً واضحاً نريد إيصاله عندما يتعلق الأمر بمصالحنا الحيوية المشروعة وفي مقدمتها أمننا وأمن أجيالنا القادمة·
والحقيقة أننا إذا استشرفنا مستقبل هذه الأزمة، من واقع قراءة ما هو مسجل من مؤشرات، فإننا سنضع أيدينا على ما يثير القلق بكل المقاييس في الاتجاه الذي تريد طهران للأمور أن تسير فيه· فنحن أمام دولة لا تعطي كبير اهتمام لتبديد عوامل الشك والقلق المبررة لدى الأطراف الأخرى، وتستدعي أكثر العبارات تصلباً وعناداً حتى في تبريرها لما تقول إنه ''أغراض سلمية'' و''مدنية'' لبرامجها النووية، وكأن بحيرات النفط والغاز التي تسبح فوقها إيران لا تكفي لإمدادها بالطاقة اللازمة للمشروعات التنموية· وبصفة عامة فإن إصرار طهران على التمسك إلى هذا الحد بالمشروع النووي أمر ملفت حقاً، إضافة إلى الإجراءات المثيرة للدهشة، والتكتم الشديد، والبعثرة المقصودة للمواقع النووية، بل وعدم تصريح إيران بالعديد من المواقع حتى كشفتها المعارضة الإيرانية في الخارج، أو اكتشفتها أجهزة الأمن الغربية، كل ذلك يدفع في اتجاه التشكيك في مدى صدق ادعاءات كون البرنامج النووي الإيراني سلمياً أو حتى لأغراض مدنية أو تنموية استراتيجية·
ولصب زيت على نار الشكوك الدولية جاءت الإجراءات الأخيرة كسحب ودائعها من البنوك الأوروبية وتحويلها إلى دول شرق آسيا، متزامنة مع جولة إقليمية استعراضية للرئيس نجاد، ومع تجدد التهديد بوقف التعاون مع الوكالة الدولية، ووصول المفاوضات مع الترويكا إلى نفق مظلم، ليؤكد كل ذلك أن من بيدهم القرار في طهران، ومن يستطيعون تنفيس احتقانات هذه الأزمة بخطوات إيجابية لا يفكرون الآن للأسف في شيء من ذلك، بل يتوقعون أن الأزمة ستأخذ منعرجاً خطيراً مستقبلاً وبالتالي كانت إجراءاتهم ''الاحترازية'' المبكرة تلك تعبيراً عن قراءتهم الخاصة لمستقبل الأزمة·
إن سلوك طهران السياسي ما زال يعطي الانطباع بأنها تتصرف وكأن ضمان ''أمنها'' لا يقوم إلا على ''جثة'' أمن المنطقة وعلى استقرارها· ولاشك أن الشواهد عديدة وواضحة على عدم تعويل إيران أو مراهنتها على الاستقرار الإقليمي، وتبلغ هذه الشواهد ذروتها في الطريقة الاستفزازية التي تحول بها العراق إلى ''رهينة'' للسياسات الإيرانية، إذ ليس سراً أن العراق أصبح ورقة ضمن أوراق يلوح بها الساسة الإيرانيون ويتعاملون معها وكأنها اليد التي في مقدورهم أن يوجعوا بها واشنطن متى ما أرادت تصعيد المواجهة معهم· هذه الحالة ولئن كان التعايش معها، بهذه الطريقة وبهذا الشكل من الابتزاز، مقلقاً ومضراً بالأمن القومي والإقليمي، إلا أن ما صدر عن الأطراف العربية حيالها حتى الآن ما زال أقرب إلى لغة الوصف أو التبرير أو اللامبالاة في معظم الأحيان·