علمتنا التجارب أنه مهما ابتعد اللبنانيون عن بعضهم بعضاً، ومهما اختلفوا وتراشقوا سيعودون في النهاية للجلوس على طاولة على أرضهم ومناقشة قضاياهم حولها· أقول ذلك، وأنا أعرف تمام المعرفة أن تاريخ لبنان تأثر دائماً بالموازين الإقليمية والدولية، وبتناقض وتقاطع السياسات الإقليمية والدولية، وتميز بتدخلات قناصل ودول عربية وأجنبية، وكلما شهد لبنان اهتزازات كان لهذه العوامل أثرها في المسببات ثم في المعالجات· ولا أعتقد أننا خرجنا اليوم من هذه الدائرة وللأسف· وكأننا نسلم جميعاً بأن لبنان هذا، هو لبنان الذي لا يتغير· وكأن أهله لا يتغيرون ولا يغيرون، ولا يتعلمون من تجارب، ولا يستفيدون من محطات وعبر ودروس وتاريخ رغم كل التضحيات التي قدموها· والمؤلم أن لبنان هذا مالئ الدنيا وشاغل الناس فيه وعلى أرضه· هذا النموذج، هذا الموقع، هذه الفرادة، هذه الخصوصية في هذه المنطقة بالذات، لا يكفي أن نتغنى بها قولاً ونثراً وشعراً ورومانسية فقط، بل ينبغي العمل على حمايتها وتعزيزها وتقويتها للمحافظة على التنوع في لبنان ولبناء وطننا، موقع التفاعل بين الحضارات وموقع الحوار الحقيقي·
أشعر أحياناً، وفي مواكبتي ومواجهتي للتحديات والمسائل السياسية التي تعيشـها البلاد، متسائلاً، كيف تولد هذه المشاكل؟ كيف تتم تغذيتها؟ كيف يتم التقاطها من قبل الخارج؟ كيف يتفاعل ويتعامل معها الداخل؟ أشعر دائماً أنني أمام حالة واحدة، هل لبنان هو بلد القلق والهواجس؟ نعم، القلق أينما كان والهواجس عند أي كان!
هكذا هو لبنان· فمتى يكون بلد الاستقرار والأمان؟ ألا تستطيع ''العبقرية'' اللبنانية، والتجربة اللبنانية الفذّة في الخارج، في كل أصقاع الأرض، أن تنتج تسوية في الداخل تكرس أمناً ووفاقاً واستقراراً ثابتاً؟
بصراحة أقول، عامل الوقت ليس لمصلحة لبنان واللبنانيين في ظل ما يجري في المنطقة من تطورات وأحداث· ومن تغيرات وتحولات· ومن إثارات لعصبيات ومشاعر مذهبية وطائفية· وكل الأمور في المنطقة متصلة بما يجري عندنا أو العكس· لكن النتيحة واحدة· إن لبنان متروك· متروك لأهله· ومتروك لمصيره· وإن لبنان يتأثر بكل شيء من حوله· ولذلك تشعر وكأن البلد يواجه احتمـالات خطيرة· الغليان في كل الطوائف والمذاهب· والمشاعر ملتهبة هنا وهناك· والعصبيات طاغية· والخطابات التخوينية الاتهامية لبعضنا بعضاً مسيطرة· فمن يضمن نتائج احتكاك هنا أو هناك؟ من يضمن عدم الوقوع في الأفخاخ المنصوبة لنا من الخارج؟ وقد عدنا إلى الخلاف والتجاذب حول العلاقة مع سوريا ودورها في ظل أخطاء بل خطايا متراكمة ترتكب من قبل مسؤوليها في التعاطي مع لبنان· وثمة خلاف حول التحقيق الدولي بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، ثم بالجرائم الأخرى التي نجح منفذوها في تحقيق أهدافهم، وتلك التي لم ينجحوا في الوصول إلى ما أرادوه· ربما كان اتفاق على العنوان· لكن في النفوس والمشاعر والقاعات والمجالس والصالونات، فإن الأمور ليست كذلك، وتلك هي الحقيقة الجارحة في لبنان، ثمة من فرح ويفرح لقتل الحريري، وثمة من فرح ويفرح لقتل التحقيق في جريمة اغتياله· وهؤلاء موجودون في سوريا وفي لبنان· وثمة من يريد طمس الحقائق، أو الاستمرار في التهديد والوعيد· وثمة من يعتبــــر أن ''تطيير'' الحريري يعني إخلاء الساحة له، في هذا المذهب أو ذاك، وفي هذه الطائفة أو تلك، ويبني على ذلك الكثير من الحسابات الخطيرة الخاطئة، التي لا تؤدي إلا إلى مزيد من الاحتقان· والخلاف على السياسة السورية أو النظام السوري يعود بقوة خلافاً على كثير من الأمور الداخلية، نظراً لارتباط عدد من القوى حتى الآن بالسياسات السورية بشكل كامل· وهذا الأمر ينعكس أيضاً على العلاقات العربية- السورية، والعربية- العربية، ويشكل تداخلاً إضافياً بين مشاكل سوريا مع المجتمع الدولي، منذ ما قبل التمديد للرئيس إميل لحود في لبنان· وتفاقم هذه المشاكل بعد التمديد، وبداية مسيرة التدويل عبر القرار ،1559 ثم مشاكل سوريا مع لجنة التحقيق الدولية، وعدم تلبية مطالبها، ومحاولات الضغط عليها، وبالتالي مشاكلها مع المجتمع الدولي مجدداً مما أدى إلى صدور قرارات دولية إضافية ليست في مصلحة سوريا وكانت في غنى عنها لو أنها سلكت طرقاً أخرى واعتمدت أساليب أخرى في إدارة العلاقات اللبنانية السورية قبل قرار التمديد، ثم بعده وقبل وبعد بدء مسلسل الإرهاب والاغتيال في لبنان للشخصيات التي عارضت التمديد ومفاعيله· إن أخطر ما في الأمر، هو أن يعود لبنان ساحة صراعات دولية وإقليمية لتصفية حسابات وترتيب أوضاع في هذه الدولة أو تلك، ولهذا النظام أو ذاك، ولكن في النهاية على حساب لبنان·
إنها مسؤولية لبنانية· لا ينفع بعدها ندم إذا وقعنا في المحظور مجدداً· وليس ثمة عاقل في لبنان بإمكانه الادعاء أنه خارج إطار دائرة الخطر· بما يمثل سياسياً وطائفياً ومناطقياً ووطنياً· الكل في عمق دائرة الخطر· والكل مستهدف في النهاية· وقد تفرض لعبة الآخرين شروطها علينا مجدداً·
لذلك، لا أ