تتمتع الهند، اليوم، بأهميّة دوليّة غير مسبوقة منذ استقلالها في ·1947 وبعض الأهميّة هذه أنها باتت، ولو نظريّاً فحسب، مصدراً لتعلّم السياسة من قبل شعوب تشبهها في درجة التطور، وفي تراكيبها الاجتماعيّة والثقافيّة· ونحن، الشعوب العربيّة والإسلاميّة، نندرج في الخانة هذه بطبيعة الحال· والراهن أنه باقتصاد يُقدر له أن ينمو، هذا العام، بنسبة تتراوح بين 7 و8 في المئة، وذلك للسنة الرابعة على التوالي، يُفترض بالهند، في العقود المقبلة، أن تقفز قفزات هائلة· والكثيرون من مستشرفي المستقبل يتوقعون لها أن تتحول، في غضون جيلين، واحدةً من أبرز قوى العالم، على الصعيد الاقتصادي ومن ثم السياسي·
وهو ما يعني، أقلّه من الزاوية التي تعنينا، أن الهنود سلكوا، ويسلكون، إلى الدور السياسي طريقاً اقتصاديّة، وتحديداً، طريق تقنيات الاتصال الحديثة التي عبّدتها لهم معطيات ثلاثة: حفاظهم على مؤسسات متماسكة، وإجادتهم اللغة الإنجليزية، وعلى نحو مُفارق، الفقر· ذاك أن هذا الأخير رشّح بلدهم للإفادة من عمليات تفريع وحدات الإنتاج المعلوماتيّة في الغرب ونقلها إلى بلدان لا تزال يدها العاملة رخيصة، والهند في طليعتها·
وكائناً ما كان الأمر، ففي هذا رأينا الهنود يخالفون الطريق التي تسلكها دول عربية عدة، والتي تتأدّى عنها الإساءة إلى الأداء الاقتصادي، والحؤول دون النهوض الاقتصادي تالياً، بسبب خيارات سياسية معتمدة·
وغني عن القول إن هذا جميعاً ما كان ليتحقق لولا الإنجاز الأعظم الذي هو الحفاظ على الديمقراطية واشتغال بُناها في بلد لا يزال فقيراً جداً، يضم 1,1 مليار شخص، وما لا يُحصى من ولاءات دينية وإثنية ولغوية· وإذا كانت العلاقات بين الجماعات هذه لم تتحرر من بعض أحقاد الماضي وحساسيّاته، فإن تردّيها لم ينعكس على استمرارية الحياة السياسية والدستورية· والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الحروب الكثيرة التي خاضتها الهند ضد باكستان ولكنْ أيضاً ضد الصين، فضلاً عن تعرّض الكثيرين من قادة البلد، منذ المهاتما غاندي الى راجيف غاندي مروراً بأمه أنديرا، للاغتيال· فهذه كلها أسباب للتداعي السياسي والانهيار المؤسسي، إلا أنها لم تعمل، في الهند، على النحو هذا· وليس بالسهل، ولا العادي، أن نجد اليوم، في ذاك البلد الذي يشكّل الهندوس غالبيته الكبيرة، أن رئيس الجمهورية مسلم، ورئيس الحكومة سيخي، ورئيسة الحزب الحاكم، أي ''حزب المؤتمر''، مسيحية من أصل إيطالي· وإنما بسبب تركة كهذه وما ترتّب عليها، تلقى حكومة مانموهان سينغ نفسها في وضع دبلوماسي مريح، تتسابق على احتضانها ورعايتها القوى الدولية الكبرى جميعاً· بيد أن الوضع المشار إليه لا يعني أن الحياة السياسية الهندية سماء صافية بلا غيوم· فهي تعاني، ما بين مشاكل داخلية وخارجية، عدداً من الصعاب نكتفي، هنا، بالإشارة إلى أهمها:
فمن المُجمع عليه، رغم الموقع المحترم الذي تحظى به الهند، ورغم انتظام سيرورتها السياسية والديمقراطية، أن إخفاقات الوضع المحلي ضخمة وخطيرة· ذاك أن الإصلاح الاقتصادي لا تزال تعيقه السياسات الائتلافية للحكومات بحيث لا يُتوقّع في الموازنة السنوية التي سوف تصدر في فبراير المقبل أن تحمل انعطافات جذرية· ويُفترض، قريباً، أن تجري بضعة انتخابات في بعض الولايات، بما فيها كيرالا والبنغال الغربية، حيث يجد ''حزب المؤتمر'' نفسه في تنافس مع الشيوعيين الذين يعتمد على أصواتهم للاحتفاظ بأكثرية برلمانية تسند حكومته·
وعلى العموم، يبقى السؤال المطروح بإلحاح: كيف التوفيق بين ضرورة النزول عند مطالب الشيوعيين، لكي يبقى المؤتمر على رأس السلطة، وبين إنجاز إصلاحات مُلحّة، كالخصخصة ولبرلة قوانين العمل والقبول بالاستثمارات الأجنبية في القطاع الصناعي، وهي كلها مما يعارضه الشيوعيون ويمارسون عليه حق ''الفيتو''؟
والحق أن الفشل في إنجاز الإصلاحات المذكورة لا بد أن يؤدي إلى إضعاف سينغ، والى إحباطه وغضبه، وربما استقالته والدعوة إلى انتخابات عامة على أمل تقوية موقعه في التحالف الحاكم (الانتخابات مقررة أصلاً في 2009)· وفي هذه الحال الأخيرة تظهر وجهتا نظر، تقول إحداهما إن انتخابات تجري الآن ستكون حكماً لمصلحة ''المؤتمر'' لأن حزب المعارضة الأساسي، ''بهاراتيا جاناتا''، يعيش وضعاً غير عادي من الفوضى والاضطراب· كذلك حققت حكومة ''المؤتمر'' اختراقات فعلية في البيئات الشعبية والفقيرة حين مررت، العام الماضي، قانوناً يضمن 100 يوم عمل في السنة بمعاش حد أدنى لكل عائلة في 200 من 600 مقاطعة·
إلا أن وجهة النظر الثانية تتشاءم في ما خص قدرة المؤتمر على تحقيق هدفه، لأن فساد البيروقراطية المتوارث جيلاً عن جيل حد من فعاليّة القانون المشار إليه، فيما عجزت سونيا غاندي في إعادة تنظيم ''حزب المؤتمر'' وتفعيله بما يخدم معركته الانتخابية·
وخارجياً، لا تبدو الأمور دائماً أشد سلاسة· فالمرجّح أن تفشل الهند في الحصول على مقعد لنفسها في مجلس أمن موسع· ومع أن الولايات المتحدة لا تكف عن توكيد رغبتها في تطو