كانت النسخة الأولى من هذا الكتاب قد صدرت في وقت مبكر من عام ،2003 أي قبل بضعة أشهر من شن الحرب الأميركية على العراق، ودون أن يتنبأ الكاتب وقتها بأي من النتائج التي أسفر عنها الغزو، ولا بمسار العملية العسكرية نفسها· ولذلك فقد كان طبيعياً أن يبدو الكتاب فيما بعد، خارجاً عن سياق تطورات الأحداث وتعقيداتها اللاحقة، وكان طبيعياً أن يتساءل القراء عن جدواه، إن لم يكن على صلة بأهم الموضوعات التي يناقش؟ وضمن ما تكشف من حقائق ومعلومات إثر الغزو عن الأسباب والدوافع التي قادت إلى شن الحرب أصلاً، فقد كان عدد كبير من القراء يرغبون في أن يدركوا إلى مدى يمكن للكاتب أن يكون قد وقع هو الآخر، ضحية لمعلومات خاطئة مضللة عن برامج أسلحة الدمار الشامل العراقية، مع العلم بأنها المعلومات التي فبركها عدد من المسؤولين في واشنطن، وأكدها أقرانهم في العاصمة البريطانية لندن·
وعلى الرغم من سد هذه الثغرات جميعاً عبر التنقيح وإعادة النشر في الطبعة الحديثة الأخيرة هذه، إلا أن الكاتب يتمسك بالقول إن كتابه يتجاوز هذه الأحداث جميعاً إلى ما هو أكبر منها، أي أنه دراسة في تأويل أحداث ومجريات التاريخ الحديث، في ضوء الوقائع والتطورات السياسية الجارية في مختلف أنحاء العالم، وليس في العراق أو أفغانستان وحدهما· فقد برز خلال القرنين الأخيرين مجتمع بشري جديد غير مسبوق، عمل على تشجيع وتوسيع الحريات الفردية، وقيم العلمانية وفصل الدين عن الدولة، إلى جانب تشجيعه لحرية الفكر والحوار وإعلاء المنطق والعقلانية· وبحسب الكاتب، فذاك هو نوع المجتمع الذي أطلق عليه هو تسمية ''المجتمع الليبرالي'' بالمعنى الفلسفي لليبرالية، القائم على معنى الحرية· ويمضي الكاتب قائلاً إن المجتمعات الليبرالية قد ازدهرت أولاً في الدول الغربية، ثم فاضت منها لتصل رقعتها مساحات ودولاً شتى منتشرة في مختلف أنحاء المعمورة· غير أن هذا الانتشار لا يعني نجاحها جميعاً، دون أن يقلل ذلك من حجم النجاح النسبي الذي حققته هنا وهناك· وقد ملأ هذا النجاح عيون وقلوب الملايين بالفأل والحلم بعالم أرقى وأفضل وأكثر إنسانية·
غير أنه وفي الوقت ذاته، أشعل نيران الضغينة والحنق في نفوس البعض، وألهمهم طاقة هائلة على العنف والتخريب والدمار· لذا فلم يكن مستغرباً أن يشهد القرن الماضي، سلسلة من الحركات وردات الفعل السياسية المتطرفة العنيفة، كانت في معظمها أوروبية المنشأ والأصل في بادئ الأمر· والقاسم المشترك الأعظم بين هذه الحركات والتيارات جميعاً هو الرغبة في الإطاحة بالمجتمعات الليبرالية وقبر قيمها وأفكارها، وإقامة مجتمعات بديلة مناهضة لها·
وكانت غالبية هذه الحركات والتيارات إما يمينية أو يسارية متطرفة، كما هو حال الفاشية والنازية والستالينية، على حد رأي الكاتب· وكانت تستند كل واحدة منها على منظومة كاملة من الأفكار والتصورات الآيديولوجية التي تدور جميعها حول نظرية المؤامرة، وحول رؤاها لمستقبل المجتمع البشري ولمصير العالم، علاوة على احتفاء كل واحدة منها بالموت والدمار على طريقتها الخاصة، وتطلعها لإقامة المجتمع الشمولي، على نقيض المجتمع الليبرالي وقيمه الليبرالية· وضمن هذا الاستطراد يقول الكاتب إن الحركات المذكورة نفسها، قد ألحقت الخراب والدمار بالقارة الأوروبية، ثم ما لبثت أن تجاوزتها إلى خارج حدود القارة، واستطاعت أن تصل إلى مناطق أخرى نائية عنها، دون أن يستثني العالم الإسلامي من دائرة الانتشار هذه· وقد اتخذ انتشار أفكار التيارات والحركات المتطرفة هذه أشكالاً وألواناً شتى في مختلف الدول والبلدان غير الأوروبية، منها تيار الإسلام السياسي الراديكالي المتشدد، الذي اجتاح الدول العربية والعالم الإسلامي اعتباراً من خمسينيات القرن الماضي· كما رأى الكاتب تجليات العنف والتطرف كذلك في عدد من الأنظمة الشمولية التي نشأت هنا وهناك، في عدة دول عربية، اتخذت لنفسها صبغة يمينية أو يسارية متطرفة·
إلى ذلك يميز المؤلف نوعاً ثالثاً من أنواع التطرف السياسي الديني، متمثلاً في التنظيمات والحركات التي لم تتمكن من إقامة دولتها الخاصة القائمة على تصوراتها وأفكارها المتشددة· وهذه هي التنظيمات التي لجأت إلى العنف والقتل العشوائي وأساليب الإرهاب اليائس الذي لم ينجح في تحويل آيديولوجيته وأفكاره إلى برنامج عمل ملموس محدد، يهدف إلى تحقيق غايات واضحة ومحددة هي الأخرى· يجدر بالذكر أن النسخة الأولى من الكتاب كانت قد أعقبت وقوع هجمات تنظيم ''القاعدة'' على مدينتي واشنطن ونيويورك في 11 سبتمبر ،2001 كما أعقبت كذلك انهيار نظام طالبان الأفغاني، إثر الغزو الأميركي لأفغانستان مباشرة· وقد ورد فيها تحليل واستقصاء لما كانت تتناقله الفضائيات ووكالات الأنباء والصحف يومياً عن تطورات العنف الديني الإسلاموي المتطرف في مختلف أنحاء العالم، مع تحديد موقعها من ثنائية الإرهاب والليبرالية التي اهتم الكاتب بوضعها في سياق تاريخي أوسع مدى ونطاقاً·
وبوضع ما كان يجري خلال الفترة السابقة للغزو ا