قراءة في الذات والواقع الراهن عبر قراءة الآخر، أو البحث عن طريق يؤدي إلى بلوغ النهضة العربية من خلال الانخراط في دراسة التجربة الأوروبية الحديثة، تلك هي الخلفية المباشرة لكتاب هاشم صالح ''مدخل إلى التنوير الأوروبي''· وإن كان الطموح الأساسي للكتاب ليس هو أن يقدم وصفة لتحقيق النهوض وإحراز التقدم العربي الشامل، فلأنه يهتم، في المقام الأول، بفهم العوامل والمحركات والمصادر التي دفعت حركة التطور في أوروبا وحفزتها منذ القرن الرابع عشر، بدءا من النهضة والإحياء الديني وصولا إلى عصر التنوير وأزمنة ما بعد الحداثة·
يمهد المؤلف لعرضه التقييمي حول نظام الحداثة وتطورات الوعي الأوروبي، بالعودة إلى الوراء، أي إلى ''عقلية القرون الوسطى''، وما ساد مرحلتها من هيمنة للوعي الأسطوري على حساب الوعي التاريخي، مبرزا أهم السمات التي ميزت فكر العصور الوسطى أو رؤيتها للعالم؛ كسيادة العقيدة اللاهوتية المسيحية وسيطرتها على العقول، وصورة الإنسان الضعيف والمتشائم نتيجة هاجس الخطيئة، والزهد في الحياة الدنيا باعتبارها دار عبور إلى الحياة الحقيقية في الدار الآخرة، وهيمنة العقلية الرمزية أو الخيالية على وعي الناس··· ضمن هذا الإطار كان يفكر فلاسفة مسيحيون مثل ألبيرتوس الكبير وروجر بيكون وآخرون كثيرون ممن كانوا يحسون بالواقع أولا وقبل كل شيء بوصفه دينيا أو ذا مسحة دينية· وهكذا يكون من المتعذر علينا أن نفهم نظام المعقولية في القرون الوسطى ما لم نأخذ بعين الاعتبار النقطة المحورية التالية: ''أولوية المعرفة اللاهوتية على كل ما عداها''·
بيد أنه ضد القرون الوسطى ومن خلال الصراع مع عقليتها تولدت الحداثة، وقبلها جاء عصر النهضة حينما بدأت أوروبا تتفوق بشكل حاسم على بقية النطاقات الحضارية الأخرى، وفي طليعتها المنافس التاريخي: النطاق العربي- الإسلامي· بدءا من تلك اللحظة راحت أوروبا تقلع حضاريا وتخلف وراءها الآخرين (العرب والهنود والصينيين··· الخ)·
يحدد المؤلف عصر النهضة زمنيا بالقول إنه ''ابتدأ منذ النصف الثاني من القرن الرابع عشر واستمر حتى بداية القرن السابع عشر، أي حتى ظهور ديكارت والثورة الغاليلية''، بمعنى أنه استمر نحو ثلاثة قرون، لكنه بلغ أوجه في القرن السادس عشر، لنشهد بعدئذ أزمنة الحداثة الفعلية· وإن كان البعض يعتبر عصر النهضة بمثابة فاصل انتقالي بين مرحلتين؛ وسطى وحديثة، فإن ذلك الرأي يعني في نظر المؤلف إغماط عصر النهضة حقه، لا سيما أنه لا وجود لقطيعة مطلقة في تاريخ الفكر بشكل عام!
ويناقش الكتاب ثلاثة أسباب كبرى أدت إلى إشاعة فكر جديد ورؤية أخرى غير دينية إلى العالم خلال عصر النهضة: أولها الاكتشافات الجغرافية وما نتج عنها من ازدهار اقتصادي في أوروبا، وثانيها تطور النزعة الإنسانية وانتشارها بفضل اختراع آلة الطباعة، أما السبب الثالث فهو حركة الإصلاح الديني وما كرسته من تجديد في هذا المجال· ورغم أن المؤرخين كثيرا ما حصروا اهتماماتهم حول عصر النهضة في أبعاده الفنية والعمرانية والأدبية، فإن هاشم صالح يعنى في هذا الكتاب بالبعد الفلسفي لذلك العصر، أي مساهمته في التاريخ العام للفلسفة؛ ويتعرض إلى مسائل أساسية طرحت على مفكري القرون الـ14 والـ15 والـ،16 وكيف ناقشوها وشخصوها ووجدوا لها حلولا، كما يقدم سيرة فكرية لعدد من رواد النهضة الأوروبية، مثل بيرارك ولورنزو فالا، وإيراسموس، وجيوردانو برونو·
ويتطرق الكتاب في موضع آخر منه إلى مسألة ''القطيعة الابستمولوجية الكبرى'' التي انبثقت عن أزمة الوعي الأوروبي في القرن السادس عشر، فحيث كان الإنجاز العلمي على يدي غاليلو وكيبلر عام ،1620 قبل أن ينظر له ديكارت فلسفيا، بمثابة الحدث الأكبر في تاريخ الفكر الغربي، فذلك لأنه دمر نهائيا الصورة الأسطورية عن الكون، كما أن كل الثورات التي حصلت بعد ذلك الإنجاز خرجت من رحمه· ثم توجت الثورة العلمية وبلغت ذروتها على يدي إسحاق نيوتن عام ،1685 لتنتقل إلى ساحة الفكر والفلسفة في النصف الثاني من القرن السابع عشر· إلا أن الثورة العلمية بداية من عام 1620 لم تكن وحدها السبب الأساسي في زعزعة المسيحية الأوروبية وإرباك الوعي الأوروبي، وإنما كان هناك سبب آخر يعود إلى ممارسات رجال الدين التي أفقدتهم المصداقية في أعين المثقفين والمفكرين، إضافة إلى الانتقال من الثورة العلمية التي أسست لعقلانية جديدة مع ديكارت إلى ثورة أخرى تشمل السياسة والدين مع سبينوزا، وذلك ''لكي يبدو التطور متساوقا على كافة المستويات''، هذا ما حصل في الفترة الممهدة للتنوير والذي ''جاء لسد هذه الحاجة''، فما هو التنوير وما هي مدلولاته في الفكر الأوروبي؟ هنا يصل المؤلف أخيرا إلى صلب الموضوع الرئيسي للكتاب، حيث يوضح أن مفهوم التنوير يتعلق بحقبة معينة في تاريخ الفكر الأوروبي، مرجحا أن يكون ديكارت أول من استخدم هذا المصطلح مجردا من دلالاته الدينية، ثم أصبح يدل على عصر بأكمله هو عصر التحرر العقلي في القرن الثامن عشر، إذ اتخذ شكل الم