ترددت في الأيام القليلة الماضية تقارير غير مؤكدة حول مصير إقامة السيد عبد الحليم خدام النائب السابق لرئيس الجمهورية السوري في باريس، وذكرت التقارير أن موفدين فرنسيين ناقشوا مع السلطات المعنية في أكثر من دولة عربية إمكانية استضافة الرجل لما بات يمثله وجوده في باريس من مشكلة سياسية لفرنسا بعد أن اتضح أن المسألة أعقد بكثير من أن تكون مجرد تفجيرات إعلامية يحدثها خدام هنا وهناك بحيث تُوظف سياسياً في اتجاه معين وينتهي الأمر، ولكنها -أي المسألة- تتعلق بمعادلات إقليمية ودولية بالغة التعقيد يتعين حساب كل ما يتعلق بها بدقة شديدة·
ولو صحت هذه التقارير لكان معنى ذلك أن مصير خدام سيكون مشابها لمصير غيره ممن تم توظيفهم سياسيا ضد أوطانهم ثم أسقطوا من قائمة اهتمامات الجميع بعد أن استنفد الغرض من دورهم· غير أن هذا ليس وجه الشبه الوحيد بين حالة خدام وغيرها من الحالات المماثلة، فخدام ليس حالة فردية وإنما ظاهرة سياسية، إذ تعودنا من مسؤولين كثيرين أن يدلوا بآراء بعد خروجهم من مقاعد السلطة مناقضة تماما أو جزئيا لما كانوا يقولونه ويفعلونه وقت جلوسهم على هذه المقاعد· هكذا على سبيل المثال أتحفنا بعض الرؤساء والمسؤولين الأميركيين رفيعي المستوى بعد أن تركوا مناصبهم، بآراء منصفة ومتوازنة ولو نسبيا بخصوص الصراع العربي-الإسرائيلي، ولم تكن لتصريحاتهم بطبيعة الحال أية جدوى بعد أن فقدوا قدرتهم كليا على التأثير، وكان السؤال دائما: لماذا لم يمارسوا جرأتهم تلك أثناء وجودهم في السلطة؟ وبرز الحرص على البقاء فيها وتجنب كل ما من شأنه أن يعوق هذا البقاء ردا مرجحا في كل الأحوال·
وفي بلاد منكوبة بغياب الديمقراطية، أو تكاد، كبلادنا العربية درج عدد من المسؤولين السابقين على الادعاء بأن وجه الخلاف بينهم وبين قيادات النظم الحاكمة هو دعوة هؤلاء المسؤولين السابقين للديمقراطية وحرصهم على وجودها وتعزيزها، وأن الصدام الذي نشأ بينهم وبين تلك القيادات نتيجة لدعوتهم هذه هو السبب في تركهم للحكم· هكذا ادعى على سبيل المثال عدد من مساعدي جمال عبد الناصر بعد أن فقدوا مواقعهم في نظام حكمه، وكان أبرز هؤلاء نائبه وقائد قواته المسلحة عبد الحكيم عامر الذي روج أنصاره بعد أن فقد منصبه فور هزيمة يونيو1967 أنه كان داعية ديمقراطيا من الطراز الأول ووُزعت على نطاق واسع نسخ مما سمي باستقالة عبد الحكيم عامر يبدو فيها وكأن جوهر الخلاف بينه وبين عبد الناصر هو المسألة الديمقراطية، وكان في المسألة ما فيها من هزل واضح لما عرف عن عامر وجماعته وممارساتهم التي لا صلة لها بالديمقراطية من قريب أو بعيد·
وكما درج بعض المخرجين فاقدي الإبداع على معاودة إخراج بعض الروائع الكلاسيكية للأفلام السينمائية ليأتي نتاج عملهم باهتا مهزوزا، فعل أيضا عبد الحليم خدام في الثلاثين من ديسمبر الماضي، حيث اكتشف في الحديث الذي أدلى به في ذلك اليوم لإحدى القنوات التليفزيونية العربية بعد عقود أمضاها في خدمة النظام الحاكم في سوريا أن هناك انفرادا وتمركزا في السلطة، وأن دور المؤسسات الدستورية أصبح هو تغطية قرارات الرئيس، وربط مشكورا بين هذا الوضع السياسي الذي اكتشفه متأخرا وبين قدرة سوريا على مواجهة الضغوط الخارجية، وادعى، كما ادعى غيره من قبل، أنه دفع ضريبة حرصه على الإصلاح السياسي والديمقراطي، منتهيا إلى أنه عندما خير بين النظام والوطن اختار الثابت وهو الوطن لأن النظام حالة عارضة·
ويبدو أن التفجير الإعلامي الأول لخدام لم يصب هدفه فأتبعه بتفجيرٍ ثانٍ أثناء حديث له إلى إحدى القنوات التليفزيونية الخاصة أكد فيه أنه استمع بنفسه إلى تهديد الرئيس بشار الأسد لرئيس الوزراء اللبناني الراحل عدة مرات، وبعد ذلك واصل خدام تصعيده فأخذ يتحدث عن رحيل الرئيس بشار الأسد أو سجنه، وعن تغير قادم في سوريا شريطة أن يكون من الداخل عن طريق استنهاض همم الشعب السوري دون أن يحدثنا عن مصادر ثقته المطلقة في أن الشعب السوري سوف يضع أياديه في أيدي من ساهموا في زيادة الضغط على الوطن ولو إلى حين·
لم يقل لنا خدام لماذا صمت عقودا طويلة دون أن ينبس بحرف واحد؟ وما هي يا ترى هذه الفروق الجوهرية بين نظام الرئيس حافظ الأسد ونظام ولده بشار الذي لعب خدام دورا بارزا في تدشينه حتى يضيق صدر خدام بهذا النظام إلى هذا الحد؟ ولماذا لم يرتفع صوته بقول الحق بمجرد اغتيال الحريري فيقول ما عنده وعلى رأسه أنه استمع بأذنيه إلى تهديد الرئيس بشار الأسد للحريري غير مرة؟ بل ولماذا لم يتكلم فور خروجه من سوريا إن كان قد شعر بالخوف أثناء وجوده داخلها؟
أقول هذا لأن الرجل اختار أن يخرج مسرحيته في أسوأ مكان وزمان يمكن تخيلهما لمثل هذا الإخراج، فالقصر الذي أطلق منه تصريحاته النارية ضد النظام السوري معروف للكافة أنه لم يشتره بنفسه وإنما اشتُري له، وإلا فليبرر لنا كيف يمكن شراء مثل هذا القصر من ''مدخرات'' نائب رئيس جمهورية يكون مصدرها راتبه الشخصي، والزمان هو ذروة اشتداد الحملة على سوريا