في الوقت الذي كان فيه محمود أحمدي نجاد، رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية يصرّح للمرة العاشرة خلال شهرٍ بضرورة إزالة إسرائيل من الخريطة، وإعادة توطين اليهود في أوروبا، كان عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري السابق، يُعلنُ من باريس انشقاقَهُ عن النظام السوري، ودعوتَهُ غير المباشرة لإسقاطه أو تغييره· ما العلاقةُ بين الأمرين؟ لا علاقة بينهما، إلاّ أنّ إيران حريصةٌ على بقاء النظام السوري، بقدر حرص خدام الجديد على إسقاطه!
والعلاقةُ بين النظامين السوري والإيراني ليست جديدة· فقد بدأت وتطورت عشية الحرب التي شنّها نظام صدام (العدو الأول لنظام الأسد) على جمهورية إيران الإسلامية الوليدة عام ،1980 ثم تحولت إلى شراكةٍ في لبنان من خلال ''حزب الله''، وتلاقي الاستراتيجيتين الإيرانية والسورية تجاه المنطقة، وبخاصةٍ في لبنان وفلسطين· بيد أنَّ الأمور تغيَّرت في السنوات الأخيرة لصالح إيران بالكامل· فقد كان نظام الأسد الأب يملك أوراقاً عديدةً يستطيع بها أن يدّعي الندّيّة في علاقاته بإيران: صداقة متينة مع السعودية (التي كانت توازِنُ في علاقاتها معه مع نظام صدام حسين)، واليد العليا في لبنان، وجزء من الورقة الفلسطينية· والذي حدث في السنوات الأخيرة أن النظام السوري بلغ أقصى حدود الضعف أيام بشار الأسد بالخروج من لبنان، كما فقد أكثر أجزاء الورقة الفلسطينية، وربما بدأ يفقد العلاقة مع السعودية، وتخاصم مع أميركا في العراق، ومع المجتمع الدولي باغتيال رفيق الحريري، وبالاغتيالات المستمرة في لبنان· والذي حدث على الجانب الإيراني أخطَر وأكبر: تطورت في السنوات الخمس الأخيرة استراتيجيةٌ شاملةٌ للمواجهة مع الولايات المتحدة وعلى كل المستويات: الصراع على العراق بعد التحالف القصير عام 2003 لإسقاط صدام حسين، والصراع على ثروات بحر قزوين، والصراع على أفغانستان وآسيا الوسطى، والصراع على الملفّ النووي··· والآن يُدخِلُ النظام الإيراني النظامَ السوريَّ تحت حمايته، ويريد فجأةً إزالة إسرائيل بحجة تهديدها له بنووياتها، ولأنّ قيامها أضرَّ بمصالح المسلمين·
لماذا يميل الإيرانيون الآن للقيام بمواجهةٍ شاملةٍ مع الولايات المتحدة؟ يطرح السؤال، ليس لأنَّ الولايات المتحدة مقصِّرةٌ في مسألة الهيمنة، وليس لأنها لم تبادر لمصارعة المشروع النووي الإيراني؛ بل لأنه حتى أواسط عام 2005 كانت أكثر التقديرات رجحاناً تفيد بأنَّ صفقةً يمكن أن تتمَّ بين الطرفين، وأنّ الخلافَ هو حول الأولويات فحسْب· الإيرانيون يريدون صفقةً شاملةً من النووي وحتى التفاصيل الاقتصادية والسياسية في شرق إيران وغربها وجنوبها وشمالها- والأميركيون بفضّلون الاتفاق على المسائل واحدةً بعد أُخرى من العراق وإلى لبنان وبحر قزوين·· مع عدم التسليم لإيران بالملفّ النووي على الإطلاق! بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية أو على مشارفها لا ندري ماذا حدث: بدا الإيرانيون مائلين إلى المواجهة الشاملة، في حين كان الأميركيون وما يزالون مترددين· فقد واجه الأميركيون مشكلةً ضخمةً في العراق وانصرفوا لمقاتلة المقاومة السنية وإرهاب الزرقاوي؛ في الوقت الذي كان فيه الإيرانيون يسيطرون على المناطق الشيعية، ويقفون متربصين على حدود المنطقة الكردية· وفي لبنان، ورغم خروج السوريين، ما يزال الإيرانيون يملكون الفيتو الحقيقي على الاستقرار، وعلى المواجهة مع إسرائيل، بواسطة ''حزب الله''، ويملكون أيضاً النظامَ السوريَّ المعزول والمحتاج إليهم في حركاته وسكناته وأنفاس بقائه· بل إنهم كسبوا في فلسطين، ودونما حاجةٍ لضرب إسرائيل بالصواريخ كما هدَّدوا؛ إذ سيطروا على المقاومة الإسلامية: ''الجهاد الإسلامي'' وحماس''، و''حماس'' بالذات تستطيع شنَّ الحرب على إسرائيل، في الوقت الذي تكسب فيه الانتخابات الفلسطينية· إنهم إذن يحفظون مصالحهم، ويمدون نفوذهم بالمال والتسليح ، ويستطيعون كسْب الصراع مع الولايات المتحدة دونما كفاحٍ مسلَّح مباشر: فلماذا هذا التصعيد الأخير، سواءٌ في الملف النووي أو في الملف الإسرائيلي؟ الولايات المتحدة الآن في مواقع الدفاع في الشرق الأوسط رغم جيوشها الضاربة في كل مكان· تحتاج أميركا إلى الاستقرار في العراق، وإلى الاستقرار في لبنان، وإلى الاستقرار في الخليج· وهكذا تحول ''الإضطراب البناّء'' الذي تحدثت عنه كوندوليزا رايس لغير صالح الولايات المتحدة، وصار ''الاضطراب البناء'' ذاتُهُ عُملةً إيرانيةً صعبةً تستطيع الكسْب عن طريقه بتحريك أحجار الشطرنج دونما حاجةٍ لإحراق أصابعها· فهل تكون تصعيدات محمود أحمدي نجاد تهويلات من أجل إرغام الولايات المتحدة على المُهادنة في الملفّ النووي، مقابل الإعراض الإيراني عن الإزعاج في الملفّات السالفة الذكر؟
حتّى خريف عام ،2005 كانت بقيةٌ باقيةٌ من المحافظين الجدد في إدارة بوش، ما تزالُ تميلُ للصفقة مع إيران· وحجتُها في ذلك أنّ الأصولية السنية (والسنة أكثريةٌ ساحقةٌ بين العرب والمسلمين) بالغة الخطورة، وسواءٌ في ذلك المتطرفون وا