يُقال في العلم الجنائي إنه عندما تقع جريمة ما، يجب البحث عن المستفيد، وكذلك الأمر في السياسة· فلدى وقوع أزمة ما يجب البحث عن المستفيد· إن الأزمـات السياسيــة فــي آسيا الوسطى -الدول الإسلامية الخمس التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي السابق- تنتقل من دولة إلى أخرى· بعض هذه الأزمات يأخذ طابعاً إثنياً· ويأخذ بعضها الآخر طابعاً طائفياً أو مذهبياً· إلا أن الطابع الاجتماعي الاقتصادي يغلب عليها كلها· أما المستفيد المباشر -ولعله الوحيد- من وراء كل هذه الأزمات فهو شركات النفط والغاز الدولية· يتداخل الأمن والسياسة في منطقة القوقاز (امتداداً حتى المحيط الهندي) تداخلاً عضوياً حتى أن كلاً منهما يبدو وكأنه الوجه الثاني للآخر·
من المعروف الآن أن تركمانستان تملك ثروة هائلة من الغاز· وأن شركات النفط والغاز الأميركية هي التي تستثمر هذه الثروة· ومن المعروف كذلك أن نفقات نقل الغاز التركماني إلى الأسواق الأوروبية باهظة التكاليف نظراً لمنافسته مع الغاز المستخرج من روسيا ومن دول شمال أفريقيا وخاصة الجزائر، وكذلك من الخليج العربي وخاصة قطر·
ومن المعروف أيضاً أن الأسواق المتعطشة للغاز تقع في جنوب شرق آسيا وفي مقدمتها الصين واليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية وماليزيا، وسواها من الدول الصناعية الآسيوية· من هنا فإن قيمة الغاز التركماني تكمن في توصيله إلى هذه الأسواق الآسيوية· وهذه عملية لا يمكن القيام بها من دون مدّ خط أنابيب يمرّ عبر أفغانستان·
في عهد نظام ''طالبان'' كان الأمر مستحيلاً لأسباب سياسية وأمنية معاً· الآن بعد ''طالبان'' وفي ظل الهيمنة العسكرية الأميركية على أفغانستان يبدو أن العقبات قد زالت· فكان التوقيع في عشق أباد في عام 2003 بين تركمانستان وباكستان وأفغانستان ممثلة في حامد قرضاي على اتفاق بهذا الشأن· وينصّ الاتفاق على مدّ خط أنابيب لنقل الغاز من حقوله التركمانية إلى مرفأ باكستاني على المحيط الهندي قرب كراتشي يبلغ طوله 1500 كيلومتر وتبلع نفقاته ملياري دولار بطاقة 20 مليار متر مكعب· كان يفترض أن يشرع في إقامة هذا الخط في عام ·1998 ولكن تدهور العلاقات الأميركية- الأفغانية في ذلك الوقت أدى إلى تجميد المشروع· وفي الواقع كانت هناك ثلاثة مخططات لخط الأنابيب· الأول عبر روسيا إلى البحر الأسود· والثاني عبر تركيا إلى البحر المتوسط· والثالث عبر إيران إلى الخليج العربي· وقد استبعدت المخططات الثلاثة·
بالنسبة للمخطط الأول مارست موسكو ضغوطاً سياسية وأمنية -عندما كانت قادرة على ذلك- لاعتماد خط الأنابيب من باكو -عاصمة أذربيجان- بحيث يتجه شمالاً إلى مرفأ نوفوريسيك على البحر الأسود· يمرّ هذا الخط في داغستان والشيشان· وهذا ما يفسّر الحرص الروسي على استمرار إخضاع الدولتين الإسلاميتين لسلطة موسكو· كما يفسّر العنف الشديد الذي استخدمه الجيش الروسي لإسقاط الحركة الاستقلالية الشيشانية· كانت روسيا قد مدت جزءاً من هذا الخط في السابق، إلا أنه يحتاج إلى إصلاح وتطوير· وتبلغ نفقات مشروع هذا الخط حوالى 500 مليون دولار· وفي الاتجاه المعاكس ضغطت تركيا لمدّ خط أنابيب ينطلق من باكو ويتجه غرباً عبر جورجيا ثم ينقسم إلى قسمين: الأول يتوجه إلى مرفأ سوبسا الجورجي على البحر الأسود، ويتوجه الثاني إلى مرفأ جيهان التركي على البحر المتوسط· وتبلغ تكاليفه حوالى 200 مليون دولار فقط· وقد احتفل مؤخراً بإنجاز هذا المشروع وبدء العمل به·
في شهر أغسطس ،1995 أوفدت رئيسة الحكومة التركية السابقة تانسو تشيللر مستشارها السياسي إيمر غونانسي إلى جورجيا للحصول على موافقة الرئيس السابق شيفرنادزه على المشروع· وجد الرئيس الجورجي فوائد مادية وسياسية مهمة لبلاده، فأيّد المشروع بحرارة· عاد المبعوث التركي إلى أنقرة ونقل الموافقة الرسمية إلى تشيللر· ولكن بعد مرور خمسة أيام فقط انفجرت سيارة ملغومة أمام مقرّ شيفرنادزه نجا منها بأعجوبة بعد أن أصيب بجراح غير خطيرة· ولم يفهم شيفرنادزه الدرس، بل لعله لم يخضع لمستلزماته، حتى أُطيح به في ثورة شعبية بتحريض ودعم من الولايات المتحدة·
يحرص الروس على أن يكون خط أنابيب باكو -نوفوريسيك خطاً وحيداً لنقل ثروة القوقاز كله من النفط والغاز لأسباب سياسية واقتصادية معاً· على رأس الأسباب السياسية تثبيت الهيمنة الروسية التقليدية على دول القوقاز والإبقاء على ربط مصالحها الاقتصادية بالقرار السياسي الروسي· وعلى رأس الأسباب الاقتصادية حرص روسيا على الحصول على عائدات مرور هذه الثروة والتي تبلغ قيمتها حوالى 4,2 ألف مليون دولار في السنة·
تمسك روسيا بأوراق ضغط قوية على دول القوقاز؛ وهي أوراق ضغط سياسية في الدرجة الأولى· فبالنسبة لجورجيا تمارس روسيا ضغوطاً مباشرة من خلال تأييد حركتين انفصاليتين عن تبليسي (عاصمة جورجيا)· واحدة في الشمال هي أبخازيا، والثانية في الشرق وهي جنوب أوسيتيا· والمنطقتان تجاوران روسيا مباشرة، ويشكل الروس نسبة عالية من سكانهما· وفي كل مرة تبدي فيها جورجيا رغب