الدول الغربية بحكوماتها ومنظماتها المدنية وغير الرسمية معنية بأن تعلمنا أصول الديمقراطية، ولا يرى كثير من العرب مانعاً في ذلك سواء لأن لهذه الدول تجارب وخبرات طويلة في الممارسة الديمقراطية، أو لأنه ليس هناك أحد فوق التعلم، وفي هذه البلاد نفسها يشيع مفهوم التعليم المستمر أو المتواصل· ولكن يبدو أن هذا المفهوم لا يشمل مسألة الديمقراطية، وليس أمامنا إلا تفسير واحد لذلك، إلى أن يظهر غيره، وهو أن الجميع في هذه البلاد التي حققت تقدماً كبيراً في الممارسة الديمقراطية يعتقدون أنهم لا حاجة لهم، بعد كل هذا التقدم، إلى مزيد من التعلم، وهذا موقف غريب، إذا صح، لأنه لا ينطبق على أي مجال آخر·
فقد حققت هذه الدول تقدماً كبيراً أيضاً في مجالات متعددة، وإن بدرجات متفاوتة بطبيعة الحال، ومع ذلك لا تكف مؤسساتها ومواطنوها عن طلب المزيد بدءاً من الطبيعة والرياضيات إلى المسرح والموسيقى· فلماذا الديمقراطية تحديداً هي التي لم تعد موضعاً لتعليم متواصل بالرغم من أن البلاد التي حققت تقدماً كبيراً فيها باتت في حاجة ماسة إلى تطوير ممارستها لها وأفكارها عنها لحل مشكلات متزايدة تواجهها، بدءاً من التناقص المستمر في معدلات المشاركة في الانتخابات وليس انتهاء بدور الأحزاب السياسية في مرحلة ثورة الاتصالات·
غير أن حاجة بلاد الغرب الديمقراطي إلى تعليم ديمقراطي متواصل تظهر في أمر أبسط من ذلك بكثير، وهو إنعاش الذاكرة التي يبدو أنها لم تعد تسع بعض مقومات العملية الديمقراطية مثل الثقافة الملائمة لها بما تتضمنه من قيم وسلوكيات في العمل السياسي بوجه عام وفي الانتخابات بوجه خاص· وربما يرجع ذلك إلى أن الديمقراطية استقرت في هذه البلاد، وانتشرت ثقافتها في المجتمع جيلاً بعد جيل بحيث باتت الثقافة الديمقراطية هي القاعدة وما عداها استثناء لا يلفت انتباهاً لأنه لا يترك أثراً يذكر· فقد أبعد الزمن هذه البلاد عن مرحلة نشأة وتطور الديمقراطية فيها، وبالتالي من المشكلات والعوائق التي واجهها هذا التطور قبل أن تنتشر ثقافة الحوار وقبول الآخر والتنافس السلمي والاقتراع الحر واحترام نتائج الانتخابات والإيمان بأن الفائز اليوم يمكن أن يخسر غداً، والعكس·
ومن الطبيعي أن يقل الاهتمام بما يبتعد عن الصورة مع مرور الزمن إلى أن يطويه النسيان· ولكن هذا طبيعي بالنسبة إلى من لا يشتغلون بالموضوع الذي بات بعض جوانبه تاريخاً بعيداً· أما المشتغل بموضوع ما فالطبيعي بالنسبة إليه أن يكون هذا التاريخ حاضراً في ذهنه غير منسي· وينطبق ذلك على عالم في الكيمياء لا يمكن إلا أن يكون تاريخ العلم حاضراً في ذهنه، كما على ناشط في منظمة مهمتها الترويج للديمقراطية لا يصح عمله إلا إذا كان على وعي بتاريخ هذه الديمقراطية·
ولذلك يصبح سقوط جزء بالغ الأهمية في هذا التاريخ من ذاكرة مروجي الديمقراطية في الغرب قصوراً خطيراً، ويظهر هذا القصور في الطريقة التي نظرت بها جهات غربية متنوعة إلى مشكلات التطور الديمقراطي في عالمنا العربي، وخصوصاً في تقويمها للانتخابات التي أجريت في بعض بلاده في الفترة الماضية، والتي كان آخرها في مصر والعراق· فقد ركزت هذه المنظمات كلياً على إجراءات العملية الانتخابية ومدى مطابقتها لما تسميه ''المعايير الدولية''، بمنأى عن الأبعاد الثقافية التي لا يمكن فهم أو تقويم أي انتخابات بدونها·
ويظهر هذا القصور واضحاً في نظرة البعثة الدولية لمراقبة الانتخابات العراقية، التي أعلنت أن مراقبتها لسير هذه الانتخابات أظهرت أنها كانت مطابقة عموماً للمعايير الدولية· فهذه المعايير باتت مختزلة في الجوانب الإجرائية للعملية الانتخابية دون اهتمام يذكر بمضمون هذه العملية وما يعكسه من ثقافة تؤثر إيجاباً أو سلباً فيها·
ولعل الدليل الأكثر سطوعاً على هذا القصور في تقويم منظمات غربية عدة للانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة، بما فيها الاتحاد الأوروبـــي، هو أنهـــــا وجهـــــت نقـــــداً شديداً ضد إجراءات لجأ إليهـــــا الجهازان الإداري والأمني لمنع ناخبين مــــن الوصول إلــــــى مراكـــــز الاقتـــــــراع والإدلاء بأصواتهم، وهذا انتهـــــــاك لسلامــــــة العمليـــــة الانتخابية لاشـــــك فـــــــــي ذلــــــــــك· ومــــــــن واجــــــب أي منظمــــة تراقــب الانتخابات وتطالب بإجرائها في أجواء ديمقراطية أن تنتقـــــد مثل هذا الانتهاك· ولكن ليس من واجبها، ولا من حقها، أن تصمت إزاء انتهاكات أخرى لأن أعضاءها لم يعودوا مهتمين بها مثل إقحام الدين فـــي العملية الانتخابية·
فلم يلفت انتباه هؤلاء الذين تابعوا الانتخابات المصرية عن كثب أن مرشحين رفعوا الإسلام شعاراً واستغلوه بشكل كثيف في حملتهم الانتخابية قدموا أنفسهم إلى ناخبين محدودي الوعي، وأحياناً لا وعي لهم، باعتبارهم متحدثين ليس فقط باسم الإسلام ولكن أيضاً باسم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام· ولم يدرك هؤلاء الحريصون جداً على الديمقراطية أن استغلال ضعف وعي الناخب هو نوع من أنواع تز