لطالما ظل رئيس الوزراء الإسرائيلي إرييل شارون، رجل المصائر دائماً طوال حياته، سواء كانت من صنع الطبيعة أم البشر· وربما من حسن طالع الشرق الأوسط أنه بات قاب قوسين أو أدنى من تخطي ذلك المصير الذي رسمه له شارون· ورغم القسوة فيما نقوله هنا، إلا أنه لا يخفى على أحد أن شارون كان يهيئ الإسرائيليين والفلسطينيين معاً، لقبول نسخة منقحة جديدة من رؤيته المتمثلة في قيام ''دولة إسرائيل الكبرى'' التي نذر لها نفسه وحياته كلها· ولكم تمنى الكثيرون لو تمكن شارون من التوصل لإبرام اتفاق مع الفلسطينيين، يتسنى لهم بموجبه الإعلان عن دولتهم المستقلة حقاً· غير أن هناك ما يكفي من الشواهد والأدلة على عزم شارون وتمسكه بإقصاء الفلسطينيين وحرمانهم من أي وجود سياسي لهم في مدينة القدس· ولما كان من عاشر المستحيلات أن يقبل العالم الإسلامي صيغة كهذه، فإنها لا تعني سوى شيء واحد هو إطالة أمد النزاع واستمرار زعزعة الأمن الإسرائيلي·
كما أن المبدأ الرئيسي المحرك لشارون هو أمن إسرائيل وتوسيع رقعة حدودها السياسية والجغرافية· ومن أجل ذلك، كان هو من أطلق ''حركة المستوطنين'' في أعقاب حرب عام ·1967 ثم إنه لم يفز بالانتخابات إلا لكونه رجل المصائر والأقدار، وهي الهالة السياسية التي استمدها مما حققه من إنجازات عسكرية في حرب عام ،1948 والتي حققت فيها الدولة الإسرائيلية كيانها السياسي، علاوة على إنجازاته العسكرية في الحروب اللاحقة· كما استطاع شارون نيل ثقة الأغلبية الإسرائيلية وطمأنتها على أمنها وسلامتها، تحت كل الظروف والأوقات، ومهما تربص بها أعداؤها وحاكوا ضدها من الدسائس والحيل·
ولذلك لم يأبه الإسرائيليون كثيراً لحقيقة أن تلك السيرة العسكرية كانت ملأى بالنجاحات التكتيكية العسكرية الباهرة، التي تتلوها الإخفاقات الاستراتيجية الكبيرة عادة· وبصفته قائد وحدة عسكرية في حرب عام 1948 والحروب التي تلتها، فقد ظل شارون رجلاً قوي الشكيمة والعزم، متقد الذهن وقادراً على تنفيذ ما يريد، دون أدنى رحمة أو شفقة·
ثم بلغ شارون أوج مجده العسكري بغزوه للبنان عام ،1982 مدفوعاً باعتقاده أنه بوسعه محو التهديد العسكري الفلسطيني بضربة واحدة، مصحوبة بتحويل لبنان نفسه إلى دولة وكيلة وعميلة لإسرائيل· لكن كم كان ذلك الخطأ السياسي فادحاً وباهظ التكلفة! صحيح أن ذلك الغزو أسفر عن طرد ''منظمة التحرير الفلسطينية'' من الأراضي اللبنانية التي لجأت إليها إثر طردها من الأردن عام ·1970 غير أن المنظمة استطاعت أن تجد لها موطئ قدم أخرى في تونس، التي جعلت منها قاعدة لانطلاق عملياتها وتهديداتها الموجهة لإسرائيل· وكانت آمال شارون معقودة على تنصيب حكومة لبنانية موالية لإسرائيل، بحيث تتألف من المليشيات اليمينية المنتمية للطائفة المسيحية· غير أن هذه المساعي، تمخضت عن ارتكاب جرائم وفظائع بشعة بحق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان -تحت بصر شارون وعلمه- وهو ما جرّ عليه ألسنة النقد والإدانة لاحقاً في إسرائيل نفسها· كما أشعل ذالك الغزو فتيل حرب أهلية لبنانية ظل أوارها مستعراً على امتداد 15 عاما، مصحوبة باشتباكات حدودية بين إسرائيل و''حزب الله''، ظلت مستمرة هي الأخرى حتى عام ،2000 ولم تنتهِ إلا بالانسحاب الإسرائيلي المخزي والمهين في نهاية المطاف·
ومما لاشك فيه أن رحيل شارون سيحدث تغييرات دراماتيكية هائلة على الأوضاع السياسية الإسرائيلية، بحكم هيمنته الراهنة على إسرائيل، ونظراً لغياب خلف له في الوقت الراهن· وبصفته رئيساً للوزراء، فقد كانت رؤيته السياسية لمصير إسرائيل، تجمع ما بين الواقعية السياسية والتصورات الخيالية الحالمة· فمن الناحية الواقعية البحتة، كان شارون يدرك أنه لا سبيل لاستمرار إسرائيل في فرض نفوذها السياسي والعسكري على المناطق الفلسطينية المحتلة، خاصة وأن الشعب الفلسطيني يشارف على التفوق الديموغرافي على شعبه الإسرائيلي من حيث العدد والكثافة السكانية· أما من حيث الخيال والتصورات السياسية الحالمة، فقد كان شارون متشبثاً بأمل التوصل إلى صيغة ما، تمكن بلاده من مواصلة هيمنتها على الفلسطينيين، بعد عزلهم تماماً من القدس الشرقية ومن أجزاء واسعة من الأراضي التي تم احتلالها في أعقاب حرب عام ·1967 وعليه فإن انسحابه الأخير من قطاع غزة، لم يكن سوى انسحاب عسكري تكتيكي من أراض هامشية صغيرة لم تعد تشكل هدفاً استراتيجياً لإسرائيل، بقدر ما تجلب لها من المخاطر والتهديدات الأمنية· أما الهدف الاستراتيجي الرئيسي وراء الانسحاب، فهو الحصول على المزيد من دعم المجتمع الدولي ومنظماته، لاستمرار شارون في تقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية والاستيلاء على أجزاء واسعة منها، بما في ذلك ضم القدس الشرقية نفسها إلى حدود دولته، بواسطة الجدار الأمني العازل·
وتأكيداً لهذه الحقيقة، فقد رفض شارون الخوض في مفاوضة الفلسطينيين على ''خريطة الطريق'' القائمة على حل الدولتين المستقلتين المتجاورتين، بحجة عجز الفلسطينيين عن تجريد حركة ''حماس'' من أسلحتها، وفشلهم ف