كان أرييل شارون طوال حياته رجل حرب وعنف، تخصص بالمجازر، وجعل من الاغتيال اليومي سياسة حكومية· إنه أيضاً رجل الجدار، وأحد عرابي الاستيطان· ثم استطاع أن ينهي حياته السياسية متمتعاً بشبهة الجنوح نحو ''السلام''، وهي الشبهة التي تركت الوسط السياسي الإسرائيلي حائراً ومرتبكاً، أما المستوطنون فلم يترددوا في اعتباره خائناً وراحوا يبحثون عن أب روحي آخر· كان شارون يسعى إلى أن يبرهن لهم في الضفة الغربية ما لم يتمكن من إثباته في الانسحاب من قطاع غزة، لكن القدر لم يمهله، وما لم يقله المستوطنون للشماتة بشارون تولاه القس الأميركي بات روبرتسون حين قال إن الجلطة الدماغية كانت ''غضباً إلهياً'' على ''تقسيم الأرض المحتلة''· وذلك على رغم أن العالم الغربي، من الرئيس الأميركي إلى بابا الفاتيكان، كان يصلي من أجل شفاء شارون وعودته إلى منصبه وعمله·
لكن العهد الشاروني انتهى تاركاً الولايات المتحدة والأوروبيين وحتى العرب والفلسطينيين، فضلاً عن الإسرائيليين أنفسهم، أمام خيارات مجهولة· فلا أحد يعرف ما هي الخطوة التالية، وانفضح الجميع في كونهم اعتمدوا عليه لقيادة ''الحل''· وهو نجح في جعل الفلسطينيين والعرب بلا أي خيار خارج ما يستطيع تقديمه، ثم إنه أدرك أن عليه عدم إحراج الآخرين، فراح يسمعهم ما يرغبون في سماعه، أي أنه ماضٍ في تنفيذ ''خريطة الطريق''، على رغم أن الأميركيين والأوروبيين يعرفون جيداً أنه نسف ''الخريطة'' وتخلى عنها لمصلحة خريطته الخاصة· ومن لم يعرف ذلك منهم أمكنه أن يطلع على التقرير الأوروبي ''السري''، لكن الأوروبيين فضلوا ألا يعرفوا فاعتبروا هذا التقرير كأن لم يكن·
فيما كان العالم يتأكد شيئاً فشيئاً أن شارون خرج من الحياة السياسية في إسرائيل، ارتسمت علامات الاستفهام في العواصم المعنية، خصوصاً في واشنطن التي راهنت على شخص وعوّلت عليه في تحديد السياسة المفترض اتباعها، منحته كل ما طلبه لقاء نقل الخيارات الإسرائيلية من الأبواب الموصدة إلى احتمالات الشروع في ''عملية سلام'' ما، وهو أوهم الجميع بأنه تغير وطرح مشروع تسوية مع الفلسطينيين من دون أن يخطئ فيسمي ذلك مشروع سلام· وعلى رغم كل ما ناله من الولايات المتحدة لم يتلفظ مرة واحدة بأنه أخذ علماً بالمشروع العربي الذي تبنته قمة بيروت عام 2002 عشية حملته لإعادة احتلال الضفة· صحيح أن الأميركيين والأوروبيين تعبوا من كيل المدائح للمشروع العربي إلا أنهم لم يتمكنوا من إقناع رجلهم الإسرائيلي بأخذه في الاعتبار، حتى بعدما أثبتوا ذلك المشروع في ''خريطة الطريق'' البائسة·
ثمة كذبة كبيرة في طريقها إلى الانفضاح بعدما كان شارون تفنن في تغطيتها، خصوصاً لأنه كان قادراً على توفير بدائل تبقي ''الخريطة'' على قيد الحياة، أقله في التصريحات وفي بيانات ''الهيئة الرباعية'' الدولية، من دون أن تكون لها قيمة فعلية، وإلا لما كان تسبب غياب شارون بكل هذا القلق· فلو كانت ''الخريطة'' ملزمة له دولياً لوجب أن تلزم من سيخلفه في الحكم، أما إذا كانت مجرد ''خريطة وهم'' فإن الخلف قد يضطر لكشف حقيقتها للتخلص منها·
منذ الآن بدأت واشنطن تتهيأ للانكفاء والانتظار، هناك أولاً الانتخابات الإسرائيلية، ثم التعرف إلى نيات رئيس الوزراء الجديد وقدراته واستعداداته للمضي في ''خطة شارون'' أو في استنباط خدعة أخرى· إذاً يمكن القول إن ''حل الدولتين'' دخل في دوامة تأخير جديدة ليصبح تحت رحمة التحالف الذي سينبثق من الانتخابات، والمتوقع ألا يكون حاسماً· ولا يستبعد كثير من المحللين أن تتجدد أجواء العنف، خصوصاً أن المناخ الإقليمي المتوتر يشجع على ذلك، من إيران والعراق إلى سوريا ولبنان· وكالعادة، على رغم وضوح المخاطر والمخاوف، فإن الأطراف الدوليين يتخاذلون ولا يبادرون إلى وضع ضوابط تمنع انهيار الأوضاع طالما أنهم لا يملكون تحريك الحلول·
على رغم كل مشاكلهم استطاع الفلسطينيون أن يجتازوا امتحان غياب ياسر عرفات وتمكنوا من رسم سياسة للتعامل مع قضيتهم متجاوزين أسوأ السيناريوهات· على العكس يبدو الإسرائيليون مقبلين على معالجة غياب شارون بالسعي إلى إيجاد بدل أكثر تطرفاً·