حين نقوم بتدريس مبادئ العلوم السياسية للطلبة في الجامعة نقول لهم إن تعريف الدولة يتمثل من خلال ثلاثة عناصر رئيسية: الأرض والشعب والسلطة، وبالتالي تتوفر الدولة حيثما تتوفر هذه العناصر الثلاثة، ولا يخلو الأمر عندها من ابتسامة بعض الطلبة النجباء الذين يتساءلون بخبث، ''الله يهداك يا دكتور! يعني أميركا دولة و··· دولة؟''، فأجيبهم قائلا، نعم، لكن ليس في الحجم أو القدرات، بل الفرق في الكفاءة· كفاءة إدارة الدولة هي أساس التفرقة، وانظروا إلى سويسرا أو السويد أو حتى إمارة موناكو· العبرة في الإدارة أولاً وأخيراً· نعم، لدينا الكثير أشباه الدول، ليست لأنها ليست دولاً، بل لأنها تدار بعقلية بليدة، وحيث لا تجد القوي الأمين في المكان المناسب إلا نادراً، بل وأندر من النادر أحياناً، للأسف الشديد·
قال علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، ''يُعرف الرجال بالحق، ولا يُعرف الحق بالرجال''، ومشكلتنا في عالمنا العربي أن الكثيرين يعرفون الحق بالرجال، فتجدهم يصفقون لكل من هب ودب، بالحق نادراً، وبالباطل كثيراً وكثيراً جداً· كما أنه يوجد رجال وأشباه رجال، توجد أيضا دول وأشباه دول·
كثير من الدول لديها كل ما يلزم الدولة الحديثة من ديكورات ضرورية، من برلمان وصحافة وجامعة ومجلس وزراء وحملة شهادات عليا ومؤسسات رسمية وأهلية ومصانع ووزارات ومسارح وعلم ونشيد وطني ويوم الاستقلال ومدارس لجميع المراحل الدراسية· لكن، وآه ثم ألف آه من هذه الـ(لكن)·
في هذه الدول ''تجاوزا''، يوجد برلمان لكن الشبهات تحيط بالانتخابات العامة إحاطة القلادة بالعنق، من تدخلات سافرة أحياناً، ومكشوفة أحيانا أخرى، ونواب أقرب ما يكونون إلى النوائب بسبب استغلال المنصب النيابي، وحكومات غير منتخبة، وكلنا يعتقد أن اختيار الوزراء أمر لا علاقة له بالكفاءة، حتى لو كان الذي قد تم اختياره كفؤا مهنيا!
ومدارس فيها تربية وليس فيها تعليم، وإذا كان فيها تعليم فهو يقوم على التلقين دون التفكير· وأما الجامعات، فليست سوى مرحلة ثانوية عليا، ومعظم ما تخرجه الجامعة لا يحتاجه السوق!
هل يمكن إنكار حقيقة أن الدول الخليجية لا تستطيع حتى أن تتنفس من دون العمالة الآسيوية؟ هل نتكلم عن حقوق الإنسان في هذه الدول؟ هل نتحدث عن صحافة بلا حرية تعبير حقيقية، وبلا ضمانات فعالة؟ وهل نحن بحاجة إلى الحديث عن الحريات المدنية المكبوتة؟
ليس هناك مجال للإنكار بأن الكثير من دول العالم الثالث لا تتوفر فيها، للأسف الشديد، مواصفات الدولة الحقيقية، ولعل هذا الأمر يكون مقبولاً لو كان هناك سعي جاد من أجل العمل نحو الأفضل، لكن أن يصاحب كل هذا البؤس الإداري عدم الاهتمام الجدي بالتطوير، فهذه هي المصيبة الحقيقية، وفوق هذا كله عدم اهتمام الشعب الذي اعتاد، للأسف، هذه الممارسات الخاطئة لا لشيء سوى أنها تريحه من تبعات استحقاقات الالتزام والعمل الجاد، فهذه هي الكارثة بعينها· لهذه الأسباب يمكن القول إن هذه الدول -مع كامل التحفظ على المصطلح والاحترام لشعوبها وحكامها- ليست دولاً بالمعنى الحقيقي للمصطلح، لكن هذا لا يعني أن الأمر قدر لا فكاك منه، بل يجب أن يكون دافعا للتحول نحو الدولة ووفقا لجوهر الدولة، وليس القبول بالمظهر المتجسدة فيه اليوم· ولنا في الدول الإسكندنافية عظة وعبرة، ومن جهة كون معظمها دولا غير نفطية، وحقيقة كونها ذات مستوى معيشي مرتفع ونظام إداري محكم ومدى حياة أطول لشعبها، والفرق بيننا وبينها في كفاءة القرار السياسي، وكفاءة الإدارة الحكومية·
الجمود والمحافظة والتقاليد والثقافة المحنطة والخوف من التغيير علة العلل في حياتنا··· ولا ننسى فوق هذا كله··· غياب العقلانية أساس الحياة الكريمة·