لم تكن الأريوسية التي تحدثنا عنها في المقال السابق، ولا الفرق الأخرى ممن ينتمون إلى ''الذين قالوا إنا نصارى''، هي وحدها التي عرفتها الجزيرة العربية قبل الدعوة المحمدية· لقد شهد شمال هذه الجزيرة وجنوبها ميادين لصراع ديني/ سياسي كان امتداداً مباشراً للحرب الضروس التي قامت بين الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية والتي حدثت آخر حلقاتها خلال الدعوة المحمدية (وقد أشار إليها القرآن مطلع سورة الروم)·
كان الشمال الغربي للجزيرة العربية (سوريا وما حولها)، إلى جانب مصر، تحت النفوذ البيزنطي (الروم) بينما كان الشمال الشرقي منها (العراق) تحت النفوذ الفارسي· أما الجنوب (اليمن) فقد كان خاضعاً أو متحالفاً، تارة مع هذا الجانب وتارة مع الجانب الآخر·
ولم يكن هذا الصراع السياسي العسكري ليترك الساحة الدينية والفكرية هادئة· لقد كان طبيعياً أن ينعكس أثره على الفكر المسيحي الذي قلنا إنه كان يعيش مشكلة تحديد طبيعة المسيح خصوصاً بعد أن أصبحت عقيدة التثليث الركن الرئيسي في ''قانون الإيمان'' الذي قررته الكنيسة الرسمية للإمبراطورية البيزنطية· والنتيجة ''تحريم'' المخالفين واضطهادهم وإقصاؤهم·
وهكذا تحول شمال الجزيرة العربية، غربا وشرقا، إلى مسرح لنشاط الفرق الدينية والفلسفية التي تم إقصاؤها من المركز، فغدت تقوم بأنواع من النشاط ''التبشيري'' أو الفلسفي المعادي لعقيدة المركز· وكما أشار القرآن إلى الموحدين ''الذين قالوا إنا نصارى'' ممتدحا موقفهم، أشار كذلك إلى عقائد الفرق الأخرى، بما في ذلك المذهب الرسمي القائل بالتثليث والمذاهب الأخرى التي انشقت عنه ولكن دون أن تتبنى موقف عقيدة الموحدين الذين اعتبروا عيسى إنساناً وليس إلهاً ولا جزءا من الإله ولا مظهراً من مظاهر الألوهية·
أما الكنيسة الرسمية التي جعلت التثليث عقيدة لها، فقد اتخذ القرآن منها موقفاً واضحاً في قوله تعالى:''لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ (···)· مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ'' (المائدة 73-76)· أما الفرق الأخرى التي انشقت عن الكنيسة الرسمية وحاولت تجاوز عقيدة التثليث بخطاب فلسفي، يطرح مشكلة العلاقة بين ما هو إلهي وما هو بشري، بين اللاهوت والناسوت، فقد انحصرت في اثنتين رئيسيتين: إحداهما حاولت تجاوز هذه المشكلة بالفصل بين الطبيعتين، البشرية والإلهية في شخص السيد المسيح، بينما حاولت الأخرى الجمع بينهما في كل واحد· أما الفرقة الأولى، فقد سُميت باسم مؤسسها نسطوريوس (النسطورية) الذي ظهر في أنطاكية شمال سوريا مؤكداً على اتحاد اللاهوت والناسوت في شخص المسيح، وعلى كون مريم هي والدة السيد المسيح الإنسان لا غير، ناكراً ومستنكراً اعتبارها ''أم الإله'' كما تنص على ذلك العقيدة الرسمية·· الخ· لقيت آراؤه اهتماما كبيراً، فاستدعي إلى القسطنطينية وعين بطريركا لها· ولكن رجال الدين في الكنيسة القبطية بالإسكندرية، وكانت أكثر تمسكا بعقيدة التثليث، شنوا عليه حملة قوية، كانت النتيجة أن رفض المجمع الكهنوتي المنعقد في أفسوس عام 431م العقيدة النسطورية وتقرر نفي صاحبها نسطوريوس إلى البتراء في بلاد العرب سنة 436 (وتوفي سنة 451م)· ومع ذلك، فقد انتشرت العقيدة النسطورية، في العراق وفارس حيث حصل تبنيها هناك، فاستقلت الكنيسة النسطورية عن الكنيسة البيزنطية لتصبح الكنيسة الشرقية (لإيران والعراق) في مقابل الكنيسة الغربية التي كان مقرها الأساسي في القسطنطينية· ومع أن النسطورية تفصل مريم عن عقيدة التثليث مستنكرة اعتبارها أُمًّا للإله فإن احتفاظها بالأقنومين الآخرين (الأب والابن) قد جعلها، في نظر القرآن، في مستوى واحد مع الفرقة اليهودية التي قالت ''عزير ابن الله''، ولذلك جمع بينهما في قوله تعالى: ''وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ'' (المائدة 30)· وإلى جانب الفرقة النسطورية، وضدا على تعاليمها، قامت المدرسة اليعقوبية (نسبة إلى مؤسسها يعقوب البرادعي) لتؤكد القول بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح .monophysisme يقول أصحاب هذه الفرقة إن المسيح ''أقنوم واحد إلا أنه من جوهرين· وربما قالوا: طبيعة واحدة من طبيعتين· يشرح الشهرستاني مذهبهم كما يلي، قالوا: ''جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا تركيباً، كما تركبت النفس والبدن فصارا جوهراً واحداً، أقنوما واحداً، وهو إنسان كله وإله كله· فيقال: الإنسان صار إلهاً ولا ينعكس فلا يقال: الإله صار إنساناً: كالفحمة تطرح في النار فيقال: صارت الفحمة ناراً· ولا يقال: صارت النار فحمة وهي في الحقيقة: لا نار مطلقة ولا فحمة مطلقة بل هي: جمرة''· ويقول الشهرستاني: إن هؤلاء هم المعنيون بقوله تعالى: ''لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ'' (المائ