منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، تشهد دول العالم النامي في شتى قارات العالم، تحولاً نحو المشاركة السياسية· لقد بدأت الموجة أولاً لدى دول جنوب أوروبا، ثم دول جنوب أميركا فدول شرق أوروبا، فدول أفريقيا الناطقة بالفرنسية وجنوب أفريقيا، فكوريا الجنوبية، فدول المنطقة العربية وجوارها الجغرافي كالمغرب والجزائر ومصر والأردن والعراق، وأخيراً دول الخليج العربي كالبحرين وعُمان ودولة الإمارات العربية المتحدة·
إن التحول نحو نمط من أنماط المشاركة السياسية في أي قطر يأخذ مكاناً ضمن الحياة السياسية للأقطار المعنية، بسبب التفاعلات التي تحدثها منظومتان عامتان من الحراك· هاتان المنظومتان يمكن تصنيفهما بأنهما إما أن تكونا بنائيتين أو ثقافيتين· فجميع التحولات الجديدة نحو المشاركة السياسية لابد وأن تصاحبها تحولات في البنى السياسية القائمة، وذلك لأنه دون حدوث تحولات من ذلك القبيل فإن الآليات المؤسسية الفعلية للديمقراطية، ابتداءً من المشاريع النخبوية الداخلية إلى الضمانات الدستورية، لن تتحقق· في مثل تلك الحالات يكون إدخال المشاركة السياسية إلى القطر آتياً من أعلى هرم السلطة، ويتم تفعيله مبدئياً على الأقل، كنتيجة مباشرة للتغيرات والتطورات التي تكون نابعة بأصالة من واقع الدول المعنية· إن الركود الاقتصادي أو القلاقل السياسية في أي قطر ينتج عنه انهيار الدولة أو ضعفها ويدفع بالنخب السياسية التقليدية إلى الانفتاح، بمعنى فتح أبواب العملية السياسية لكي تستوعب نخباً سياسية طامحة جديدة· وبعد أن يكتمل التحول نحو المشاركة السياسية فإن النخب الجديدة تواجه المهمة الشاقة المتعلقة بتقوية تجربة المشاركة السياسية التي دخلت حديثاً إلى المجتمع وثقافته السياسية القائمة·
إن العديد من الدول التي دخلتها المشاركة السياسية حديثاً في مناطق العالم النامي المختلفة، تواجه مشاكل جديدة تتعلق بالشرعية الاجتماعية والثقافية، وتبقى قابلة للاختراقات الدماغوجية الشعبية، وفي بعض الأحيان الحركات الممنوعة من ممارسة النشاط السياسي والمعادية لتطبيقات المشاركة السياسية الحديثة بمفاهيمها الغربية، كما حدث في البيرو أثناء فترة حكم فيجيموري، أو في السودان أثناء حكم ''جبهة الإنقاذ الإسلامية'' أو بدرجة أقل في تركيا في الوقت الراهن·
إن الاستثناءات بالنسبة للأمر الأخير موجودة، ونمط مشاركات سياسية من قبيل تجارب الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وكوريا الجنوبية والبرتغال واليونان وأسبانيا، جميعها تبدو وهي تتمتع بدرجة عالية من التقوية الثقافية بغض النظر عن كون تواجدها قد جاء كنتيجة لمفاوضات متفق عليها بين أعضاء النخبة· في جميع تلك الحالات أدخلت المشاركة السياسية إلى النظام السياسي من أعلى قمة الهرم السياسي، ولكن وبعد فترة قصيرة لدى بعض النظم وأطول قليلاً لدى نظم أخرى أصبحت مقبولة ثقافياً وشائعة في الأوساط الاجتماعية المختلفة لمعظم فئات المجتمع·
إن النخب التي تنادي بالمشاركة السياسية لا تحاول أو لا تنجح في تقوية ثقافة المشاركة السياسية في المجتمع، وذلك لأن نظام المشاركة السياسية المقام حديثاً عادة ما ينتهي به المطاف لكي يحتوي على مجموعات نخبوية معزولة بشكل كبير، تقبع مصالحها في المحافظة على مواقعها الخاصة ضمن المؤسسات الجديدة· إن ذلك يحدث عوضاً عن أن يقوم أعضاء تلك النخب بتمثيل مصالح ناخبيها والدفاع عنها·
إن هذه الحالة تحدث كل يوم في أقطار العالم النامي التي تم إدخال المشاركة السياسية فيها، لذلك فإن إدخال المشاركة السياسية من أعلى يواجه ''احتمال'' خطر أن ينتهي إلى ظهور حكومة نخبوية تتواجد فيها جميع الخصائص المؤسسية والبنائية للمشاركة السياسية، ولكنها تفتقد إلى محتوى ثقافي قوي يوفر لها المصداقية اللازمة في أوساط كافة شرائح المجتمع المختلفة· وأرجو أن ينتبه القارئ إلى مصطلح ''احتمال'' الذي يعني أن الأمر ليس بالضرورة أن يحدث·