أجمل الكتب ما ترك أثراً في الذاكرة لا يمحي، وهو ما يحدث لي أحياناً مع قراءة بعض الروايات أو القصص أو الأبحاث التي تقلب الرأس أو تترك الانطباع الذي لا ينسى· كما حدث معي في قصة آخر الراحلين، وكتاب الكون لكارل ساجان، أو العبودية المختارة لأتيين دي لابواسييه، الأول قصة هلاك شعب قفقاسي بالكامل والثاني من علم الفلك، والثالث في عالم السياسة ولماذا يوجد الطغيان؟ وأعظم الأشخاص الذين تقرأ عنهم وأنت لم تجتمع بهم فتتأثر بهم وتتبع سيرتهم من خلال ما تركوا من مواعظ وتعليمات· والفيلسوف ''ابكتيتوس'' Epictitus هو واحد من الذين تركوا انطباعاً لا ينسى على سلوكي، واكتشف تطبيقات ميدانية لأفكاره دوماً، بحيث إن هذه الأفكار تدخل اللاوعي فيتشربها لينقلب إلى سلوك· والعجيب في قصة هذا الرجل الذي يذكر بلقمان الحكيم أنه كان عبدا ثم أعتق، وكان يُدَرِّس أبناء علية القوم في روما الفلسفة· حتى غضب الإمبراطور ''دوميتيان'' يوماً على الفلاسفة بسبب تماديهم في انتقاد الأوضاع، وليس أبغض على النفس من النقد، مع أنه دواء، ولا تسكر النفس بخمر كالثناء، مع أنه سكر وذهاب للعقل عن تتبع النقد والنمو؛ فنفاهم من روما إلى آسيا الصغرى، وهي محنة المثقفين دوماً، والملوك المستبدون لا يحبون فلاسفة التنوير قط، كما يقول الكواكبي في كتابه عن الاستبداد أن العلماء والحكام يتنازعون العوام، والأنبياء جاءوا لتعليم الناس، وتحريرهم من الجبت والطاغوت، من الطاغوت الذي يستلب الحريات بالقوة، والجبت الرجال الذين يغتالون العقول بالوهم···
لم يترك هذا الفيلسوف سوى كتاب صغير بعنوان ''الموجز'' وأربع محاضرات لم يكتبها هو بل تلميذه ''أريان''· وفي عام 89 للميلاد أسس مدرسة للفلسفة في ''نيقوبوليس'' تنادي بأربعة مبادئ أساسية للفلسفة: هي الحرية والعناية الإلهية والاتجاه العملي والنزعة الإنسانية·
كان الرجل ينزل إلى مستوى إنسان الشارع العادي، وكان يقول إذا لم تغير الفلسفة التيار الاجتماعي فليست بفلسفة، وكان يقترب بهذا من سقراط وديوجينس·
والعمود الفقري المريح في فلسفته قوله بعدم وجود شر محض في هذا العالم، وأن أي شيء يحدث لا داعي فيه للغضب والنرفزة؛ بل يجب استقبال كل ما يحدث بما فيه الموت أو المرض والعوز والألم، وهي كبار عناصر الشقاء في الحياة، ولسوف نكتشف الجانب الإيجابي فيه·
وأنا اليوم أكتشف دوماً حقيقة قول هذا الرجل، ويذكرني بالقرآن الكريم الذي يقول (فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيرا كثيرا)·
وفي قصة الإفك يتكرر تأكيد هذا القانون النفسي مرة أخرى، وهي أن ما حدث لم يكن شراً محضاً بل هو خير لكم·
إن هذا اتجاه جديد في علم النفس، فالذي يحكم على الضار والنافع ليس مشاعرنا، والله يتحدث عن المنافقين أنهم يظنون أنهم يحسنون صنعا وهم لا يشعرون·
حقاً إن عالم النفس غامض حافل بالأسرار مليء بالكهوف المظلمة السرية· كان فلاسفة المدرسة الرواقية يمشون كل يوم في الهواء الطلق ضمن أروقة المدرسة المخصصة لهذا، فيتحاورون طوال المشي، ومنها أخذت المدرسة اسمها (Stoicism) خلافا للمدرسة الإبيقورية التي تعتمد اللذة، وهذه لها حديث آخر·
وأبكتيتوس كان من المدرسة الرواقية· كان يقول هات لي ما تشاء مما تتصوره أنه شر محض وأذية ومصيبة من فقر أو مرض حتى الموت، هات لي ما تشاء وسوف أحوله لك بعصا سحرية إلى نقيضه·
وكان يناقش كل قضية فيستعرض زواياها ليصل في النهاية إلى أن هذا الكون مبني على الخير والبرمجة والجمال والغائية، وهو ماضٍ في طريقه إلى أجل مسمى، ونحن دعينا إلى مأدبة الحياة العامرة وعندما ينادي الموت فيجب أن ننصرف من هذه المأدبة بكل أدب ولطف وهدوء، ولا داعي للحزن أو الجزع في مواجهة الموت·
ولكـن هل نستطيع؟ كان سهـلا قوله قبل موت زوجتي ليلى سعيد داعية اللاعنف حتى واجهت الموت مع موتها فأوشكت على الموت حزنـا· وأكـرر كـل هـذا الحـب الذي منحناه يخطـف فـي لحظـة فما أحكمك يا رب؟