للعرب.. الديمقراطية أولاً
لدى العرب ما يكفيهم من تاريخ المماحكات السياسية حول تقديم هذا الشعار أو تأخير ذلك·
في الخمسينيات من القرن الماضي كان النقاش السفسطائي حول تقديم شعار الوحدة العربية على شعار الاشتراكية أو حول تفضيل الثأر على الوحدة العربية· وعبثية ذلك النقاش أنه كان يتمُّ بصراخ وعويل مثيرين للشفقة وكأن تلك الحركات السياسية قد وصلت إلى مراحل القدرة على التنفيذ لكي تمارس ترف الاختيار أو التفضيل·
وبعدها حشرت الحركات السياسية نفسها في معركة وهمية أخرى تتعلق بتقديم الإسلام على العروبة أم العكس· واليوم يطرح موضوع التفاضل بين إعطاء الأولوية للديمقراطية أم إعطائها للنمو الاقتصادي في معارك العرب الإصلاحية· وبالطبع فإن تعلُّق العرب بالثنائيات (دين/ علم، إيمان/ عقل، أصالة/ معاصرة·· إلخ) كان ولا يزال إحدى سمات مسيرتهم الفكرية والسياسية عبر العصور· وكأنه قد كتب على العرب أن يعيشوا العبث الوجودي حول وهم ضرورة الاختيار بين الأبيض والأسود في كل زمان وكل مناسبة، بينما الحياة الإنسانية كلها تقبع تحل الظل الرمادي·
مناسبة هذا الحديث هي الجدل الدائر في بعض الأوساط الأكاديمية الغربية والعربية حول ما إذا كان التقدم على جبهة الاقتصاد هو الذي يؤدي إلى التقدم على جبهة الديمقراطية، أم أن العكس صحيح؟ قبل الحديث عما نعتقد أنه خاصية عربية بالنسبة لهذا السؤال المطروح، دعنا نذكِّر بأنه في حقل حقوق الإنسان حسمت الأمم المتحدة الموضوع منذ نصف قرن عندما أكدت أن الحقوق السياسية يجب أن تلازمها الحقوق الاقتصادية- الاجتماعية وأن الحقوق الاقتصادية- الاجتماعية يجب أن تلازمها الحقوق السياسية· وإذن فالترابط بين العملية السياسية والعملية الاقتصادية هو ترابط وثيق·
لكن في بلاد العرب يجب الحذر الشديد عند تناول هذا الموضوع للأسباب التالية:
1- أن تاريخ العرب يؤكد أن التراجعات الحادة في اقتصادهم كانت دائماً نتيجة قيام حكم الغلبة الاستبدادي· وسواء استند ذلك الحكم على شرعية الغلبة القبلية أو النَّسب العائلي الديني أو الاجتياح العسكري من الخارج أو الداخل فإن الحصيلة كانت دائماً استباحة المال العام وتعاظم الاقتصاد الطفيلي غير المنتج وتدهور الطبقة الوسطى· وفي عصرنا العربي الحالي فإن تلك الصورة من الحكم الفاسد المؤدي إلى خراب العمران هي الغالبة في أغلب الدول العربية، سواء أحكمها العساكر أم حكمتها أقليّة تحت ألف ذريعة وذريعة مضحكة· ومن هنا فإن التاريخ السياسي العربي في الماضي والحاضر لا يشير إلى وجود إمكانية معقولة لقيام حكم يبني اقتصاداً منتجاً عصرياً يقود إلى قيام نظام ديمقراطي مستقر كما فعلته بعض دول شرق آسيا من قبل أو كما تحاول أن تفعله الصين اليوم·
2- وإذن فإن كسر الحلقة الجهنمية التي تبدأ بالاستبداد السياسي الفاسد الذي يؤدي إلى خراب العمران والاقتصاد والذي بدوره يؤدي إلى تدمير للبنية الاجتماعية لينتهي الأمر بازدياد قوة الاستبداد وتجذُّره·· كسر هذه الحلقة هو المطلوب في أرض العرب بدلاً من الرهان على سراب ظهور العقل والضمير والالتزام بالصالح العام في الحياة الرسمية العربية· إن قيام قيادات حاكمة فذة في بلاد العرب مثل التي ظهرت في ماليزيا أو سنغافورة هو من الأمور الصعبة في معظم الأحوال، خصوصاً بعد عودة الاستعمار الأميركي واستفحال المشروع الصهيوني وتعاظم قوة وتسلط الفساد العولمي·
3- من هنا فإن أية إشارة إلى إمكانية تراجع المشروع الديمقراطي في كل أرض العرب عن مكانة الصدارة وقمة الأولوية قد يؤدي إلى بقاء الحال العربي في جموده· إن الديمقراطية لها مشاكلها لكن من المؤكد أن استباحة العراق ومشاكل السودان ولبنان وغيرها لم تظهر بسبب تطبيق الديمقراطية التي نعرفها، وإنما بسبب تطبيق ديمقراطية المشروع الأميركي- الصهيوني الكسيحة· بعد اليوم لا تنازل عن الديمقراطية لأي سبب من مثل تحرير فلسطين أو حماية الثورة أو بناء الاقتصاد أو أي ذريعة·