أمضيت إجازة آخر الأسبوع الماضي في الساحل اللازوردي الشهير بالريفيرا الفرنسية، إنه رائع حقاً ولكنني لم أتمتع به، ذلك أن معظم ساعات النهار التي جعلت من أجل التمتع بالبحر والصيف أمضيتها مع باحثين سعوديين وخليجيين وأوروبيين نناقش عالمنا "الأوروبي الخليجي" وذلك في إطار تجمع يلتقي كل صيف بات يسمى "يورو جولف" ومن المفترض أن يعقد لقاءه المقبل في الرياض، ولعلنا إذا أردنا نحن السعوديين علاقة مميزة بالأوروبيين أن نتحاشى دعوتهم إلى عاصمتنا خلال أشهر الصيف فنقدم المؤتمر أو نؤخره إلى الربيع أو الخريف أو تتنازل الرياض لأبها مثلاً.
كنت متفائلا جدا في كلمتي في المؤتمر، وبالفعل بدأت حديثي بالقول "سأكون استفزازياً عندما أحدثكم عن توقعي بعودة هلال خصيب منتعش اقتصادياً منفتح وبدون حدود في المشرق العربي، تاجه يمتد ما بين العراق إلى لبنان وسوريا وقلبه المملكة العربية السعودية ودول الخليج، والاستفزاز يأتي من أنني متفائل بينما يفجر انتحاري نفسه كل عدة ساعات وسط عراقيين يريدون بناء بلدهم كي يكون جزءاً من هذا الهلال الخصيب، وبينما لا يفصل عن تفجير صحفي أو سياسي وطني لبناني متفائل مثلي بمستقبل أفضل إلا أسابيع قليلة".. هنالك قوى بيننا لا تريد هذا الهلال الخصيب فتحاربه لأنها لا تجد نفسها فيه، إنها متحالفة هذه الأيام رغم التعارض العقدي الهائل بينها، فإما أنها تحمل فكراً منغلقا ضد الآخر والانفتاح والفرح، فمشروع الهلال الخصيب يجلب كل ما سبق، وإما أنها لا تستطيع أن تعيش إلا في بيئة سياسية قمعية، تسود ببطش المخابرات وتنتعش اقتصاديا بالفساد والامتيازات الخاصة والتجاوزات وأقلها التهريب بين الحدود المغلقة. وكل ما سبق ينفيه مشروع الهلال الخصيب.
المملكة العربية السعودية باقتصادها القوي والذي أيضا يحتاج إلى إصلاح كي يزداد قوة ويتمدد ليشمل غالبية السعوديين، تبحث عن شركاء في منطقتها تتسع اقتصاديا وإنتاجيا نحوهم وهم يفعلون الأمر نفسه نحوها، ولعل القارئ يلاحظ اهتمام المسؤولين السعوديين بالإصلاح، خاصة الاقتصادي منه في المنطقة، ويدعون إلى إقامة منطقة للتجارة الحرة في إطار الجامعة العربية ما يفسر زعمي ببحث السعودية عن شركاء ينهضون معها نحو عالم أفضل. قبل عامين حلمت بهذا الهلال الخصيب وتوقعته آتياً من العراق، ولكن أخطاء الأميركيين وهجمة القاعدة "التي وفرت أخطاء الأميركيين (مرة أخرى) الأرضية المناسبة لها" وأدتا الحلم العراقي إلى حين، ولكن ليس نهائياً فالعراقي لابد أن يدحر هؤلاء ويبني عراقاً موحداً وقوياً، هذه المرة أرى الحلم آتياً من لبنان في نهضته الجديدة التي دفع ثمنها وأيقظها ويا للآسف دم رجل سبق زمانه هو رفيق الحريري الذي كان يمكن أن يكون ركناً من أركان الهلال الخصيب المقبل.
لنترك كل خلافات اللبنانيين جانبا التي أوقدت جذوتها الانتخابات، فهذا التناحر من الأعراض الجانبية اللازمة في العملية الديمقراطية، سيجد الزعماء اللبنانيون بعدما انتهت "قضية الوجود السوري" – إن شاء الله – أن قضيتهم الحقيقية هي بناء لبنان جديد يقوم على العدالة والحرية، تعزيز اقتصاد ينعم اللبنانيون فيه برخاء حقيقي، أما محاربة الفساد والذي هو من ألد أعداء الاقتصاد الناجح فلقد باتت قضية جميع الفرقاء من المعارض الجديد العماد ميشال عون إلى المعارضة سابقا والمتحولة إلى حكومة، أي تيار الحريري وحلفائه ومن بينهم أيضا حزب الله الذي عليه استحقاقات أمام ناخبيه الذين يرون أنفسهم طائفة مهضومة الحقوق، ولا شيء غير اقتصاد حر قوي كفيل بإخراجهم من ذلك الواقع، حتى زعيم حركة أمل نبيه بري يريد أن يحارب الفساد. إذن ستكون هناك اختلافات ولكنها اجتهادات نحو نهوض اقتصادي قد يقلب الموازين في المنطقة، لقد تضاعفت معدلات الدخل في بعض دول أوروبا الشرقية مثل بولندا في عقد واحد، فما الذي يمنع اللبنانيين من فعل معجزة كهذه، قد تكون المحرك لأحداث تغيير جذري لدى جيرانهم دون الحاجة إلى مغامرات أميركية غبية أخرى.
يستطيع اللبناني المنتشر بذاته وبشركاته وشراكاته في المنطقة أن يحمل مع السعودي لواء هذا الهلال الخصيب، الذي يترك الكيانات السياسية في عالمها الوديع، ولكنه يلغي الحدود، والتهريب، والشك، والبيروقراطية. عالم ممتع، تتحول فيه الرحلة من بيروت إلى تبوك إلى متعة، مع الكثير من فناجين القهوة التركية وقطع البقلاوة التي تريح السائق في استراحة نظيفة راقية في دمشق أو عمان، شيء مثل قيادة سيارة مكشوفة على الساحل اللازوردي من مانتون الفرنسية إلى سان ريمو الإيطالية (وهو ما لم أتمتع به) بدون الحاجة للتوقف إلا للبنزين مثلاً أو تنسم ربيع منعش.
إن المحرك للوحدة العربية إذا بقي هناك من يؤمن بها هو الاقتصاد، فاحتمال قيام وحدة جمركية واقتصادية بما تعنيه من رفع للحدود وحرية للتنقل بين بلد كلبنان والمملكة وبقية دول مجلس التعاون الخليجي أقرب منها مع اليمن، رغم أن الأخيرة أقرب إلينا جغرافيا وقبلياً، فهذه الاعتبارات لم تعد مهمة، والمهم هو الاقتصاد