لقد بات القتل عادة في العراق. وأصبح الخبر عن مجزرة وعمليات قتل جماعي أمراً مألوفاً في الحياة اليومية العراقية، بل في الحياة العربية. العشرات يسقطون يومياً بين قتلى وجرحى. وعمليات التفجير تتكثـّف، وما يســــمى بعمليات انتحـــارية أصبـــحت "موضة" تستهدف المدنيين ونادراً ما استهدفت قوات الاحتلال. والأخطر من كل ذلك أن نوعاَ من التطهير العرقي المذهبي يمارس في عدد من المناطق. متطرفون سنة هنا يستهدفون الشيعة. ومتطرفون شيعة من هناك يستهدفون السنة. والاحتلال رغم بعض الضربات التي توجه إليه يبدو مرتاحاً أكثر من أي وقت مضى. هو ليس مستقراً ولكنه ارتاح للعبة التفتيت. مشروعه لم ينجح بعد. الكلفة عالية. المخاطر كبيـــرة، لكن اللجوء إلى لعبة التفتيت والتحريض المذهبي وإثارة النعرات وافتعال المشاكل أسلوب أدى نتائج وأغراضاً تصب في خانة الاحتلال.
العراق أمام مذبحة مفتوحة. والشعب العراقي متروك والعراق كله متروك والخطوات التفتيتية تأخذ مداها وتشق دربها ببطء، وهي تهدد بذلك وحدة البلاد ومحيطها إضافة إلى ما تتركه من انعكاسات سلبية في عدد من الدول. فهل ثمة مجال لوقف هذا المسلسل؟
للأسف، لا أرى باباً في المدى المنظور يمكن الدخول منه. لعبة الدم ستستمر. ويبدو أن النفوس مشحونة إلى حدود كبيرة والأحقاد أكبر مما نتصور ولعبة مصالح الدول وبالتحديد أميركا بالدرجة الأولى هي التي تسيّر الأمور!
ومهما كانت المبررات والذرائع التي تقدم، من نوع التدخل السوري، أو النفوذ الإيراني، أو الدعم الخارجي للمسلمين، فإن المسؤولية تقع أولاً على الاحتلال الذي هو الذريعة الظاهرة الأساس لكل عمل. والمسؤولية الثانية تقع على عاتق القوى السياسية العراقية المختلفة. فالقوى التي تعتبر نفسها أحكمت السيطرة على مقاليد الحكم، ولا تبالي بما يجري اليوم، أو تعتبر عامل الوقت لمصلحتها مخطئة في ذلك. والمطلوب منها سعي حثيث لاستيعاب وإشراك القوى الأخرى التي إذا اعتقدت هي أيضاً أنها بما تقوم به تحاول استعادة حقوق أو تكريس واقع سياسي معين فهي أيضاً مخطئة لأن مثل هذا التوجه سيؤدي في النهاية إلى زوال ما تبقى لديها من نفوذ أو سلطة. وسيؤدي في النهاية إلى خسارة ثروات البلاد كلها التي ستقع تحت هيمنة الاحتلال. والقوى التي تعتبر نفسها مطمئنة إلى حكمها الذاتي واستقلاليتها وتعتبر أن الظرف التاريخي لن يتكرر لفعل ما تفعله الآن، يجب أن تدرك أن الواقع الإقليمي والدولي قد يهدد مصالحها وحكمها الذاتي ولن يسمح لها بإقامة دولتها وبالتالي سيبقى الجرح مفتوحاً إلى أمد بعيد.
إنه مشروع حماية الأقليات، وحقوق الإنسان، وفي ظله تتعرض أقليات وتستهدف حقوق الإنسان. وسيشعر الجميع أنهم أقليات ومحميات وتجمعات وقبائل وعشائر تخاف بعضها بعضاً وتستهدف كل طاقاتها، وهي بحاجة دائماً إلى الخارج لحمايتها وفي ذلك تدمير جماعي لكل القوى.
ليس أمام العراقيين سوى الحوار والاتفاق على تسوية تاريخية تخرج العراق من محنته وتعيد إنتاج حياة سياسية يشارك فيها الجميع لإعادة بناء البلد. أما البقاء على الوضع الحالي فهو سيؤدي إلى مزيد من الدمار والخراب والمذابح والتقاتل بين العراقيين أنفسهم وإلى إفساح المجال أمام الاحتلال لاستئصال وتدمير كل مقومات البلد وكفاءاته وقدراته البشرية والمادية. فقد تم اغتيال أكثر من مئة عالم عراقي حتى الآن، وتهجير مئات آخرين واعتقال الآلاف بشكل غير شرعي، وتدمير المؤسسات، وتعميم الفقر والفوضى والأمراض, ولا ديمقراطية ولا حرية ولا من يحزنون على الوضع العراقي الحالي. ويبدو أن الساحة العراقية وواقعها وتناقضاتها ومشاكلها تستغل أيضاً لتصفية حسابات مع دول أخرى. فالضغط على سوريا قائم من بوابة العراق إضافة إلى لبنان، ومحاولة ابتزاز إيران سائرة من البوابة العراقية. ومثال العراق مطروح أمام دول المنطقة الأخرى، إما أن تعتمده وإما أن تواجه المصير ذاته إضافة إلى العوامل الداخلية المتفجرة فيها.
ولا أريد هنا المبالغة في التوصيف والتعبير عن واقع الحال أو التحدث بلغة رومانسية عن الوحدة العربية والتضامن العربي وما شابه. فالواقع مؤلم إلى حد يفرض عليك أحياناً أن تتراجع إلى ما هو أدنى من الحد الأدنى الذي كان يمكن أن تقف عنده منذ سنوات. بل أريد فعلاً أن أعبر عن المخاطر والمخاوف الكبيرة من استمرار هذه المذبحة في بلاد الرافدين! وأنطلق منها لأحدق في ما يمكن أن تكون عليه المنطقة بعد سنوات قريبة إذا ما ترك العراق على وضعه الحالي. ولا أرى إلا ناراً مشتعلة هنا وهناك. وأعمالاً أمنية تهدد كيانات ودول المنطقة. قد يسميها البعض أعمالاً إرهابية فيما يرى فيها آخرون أعمالاً جهادية أو عمليات انتقامية من أنظمـــــة "مســـتبدة" أو "طاغية" أو ما شابه، وقد يراها فريق ثالث نتيجة طبيعية لواقع القهر والظلم والكبت الذي تعيشه الشعوب، ولكن في النهاية سوف تلتهم النار كل شيء. وأعتقد أن كثيرين من القادة العقلاء يشعرون بالخطر. فما التقيت مسؤولاً عربياً إلا وأبدى أمامي