يخوض الحزب الشيوعي الصيني صراعاً مريراً من أجل البقاء حياً، لأن الشيوعية ولأسباب عملية أصبحت جزءاً من التاريخ بعدما أهيل عليها الثرى. ويتبدى جزء من ذلك الصراع المحتدم من خلال الاحتجاجات الأخيرة التي اندلعت في الصين ضد اليابان وصعود المد القومي وهو ما أثار انتقادات عبر العالم من كون الصين تفتقد إلى التسامح وتستنكف عن التعاون البناء الذي يضمن السلم والأمن العالميين ويبعد شبح الحروب التي لا تبقي ولا تذر. وليس خافياً أن هذا النقد الموجه إلى الصين يشوبه الخوف التاريخي من استيقاظ التنين الأحمر مرة الأخرى وما يطرحه ذلك من احتمالات الصدام بين الصين والغرب حول الهيمنة على العالم، لا سيما وأن الصين تعتبر نفسها صاحبة حضارة متجذرة في التاريخ تؤهلها للإسهام مجدداً في المعطيات الحضارية المعاصرة والتأثير على مجرى الأحداث الدولية.
بالإضافة إلى ذلك فقد وجه النقاد اتهاماتهم إلى الصين باستخدام ورقة القومية لكسب المزيد من التأييد الشعبي في أوساط الصينيين، وهو ما يتأكد بالفعل عندما ننظر مليا في الموضوع. فقد قامت القيادة الصينية بتشجيع ودعم بروز المد القومي على الساحة السياسية وذلك لملء الفراغ الناجم عن موت الشيوعية واندحارها في الصين بعدما سبق واندثرت في الاتحاد السوفيتي.
وبالرغم من أن الشيوعية لم تعد محل جذب واستقطاب للشعب الصيني أو نخبه بالنظر إلى القيود الكثيرة التي تفرضها على الحريات الأساسية والفساد المستشري في أركان السلطة، إلا أن الحزب الشيوعي مازال يسيطر على الدولة. ومازال الحزب يسعى جاهداً لإحكام قبضته على الصينيين، لكن بطريقة يتقبلونها دون أن يدركوا الهدف الحقيقي من ورائها، لذلك رأينا كيف أن الحزب الشيوعي في السنوات الأخيرة بدأ يخفف من نبرته الأيديولوجية الحادة مفسحاً المجال أمام الانفتاح الاقتصادي الذي يعتقد العديد من المحللين أنه كان وراء المعدلات العالية للنمو التي يشهدها الاقتصاد الصيني حاليا. أما على الصعيد السياسي فقد قام الحزب بالتحرك من خلال تعزيز الشعور القومي وذلك سعياً منه للبقاء متربعاً على عرش السلطة.
وربما يأتي اختيار الحزب الشيوعي للقومية كورقة رابحة تمكنه من المحافظة على سلطته نتيجة إدراكه العميق أن الصين لا تملك الكثير من العناصر الموحدة التي تجعل الناس يلتفون حول كيان سياسي واحد. فبالرغم من وجود اللغة والثقافة اللتين تشكلان عنصرا موحدا، إلا أن ذلك، في نظر كثيرين، لن يمنع من اندلاع النعرات الانفصالية بين الفصائل المختلفة في الصين وانتشار الاضطرابات والقلاقل في البلاد. وبما أن عنصر الدين غائب في الصين فلا توجد إمكانية لالتفاف الناس حول معتقد ديني متماسك يساهم في ظهور هوية دينية مميزة وفريدة. ومن المعروف على المستوى السياسي أن النخبة الحاكمة لا تكن الكثير من الود للديمقراطية التي تعتقد أنها تهدد مصالحها في البقاء على رأس هرم السلطة. وأمام هذا الغياب لعنصر موحِّد للصينيين تبقى المشاعر القومية هي اللحمة التي يمكن أن تدفع الشعب الصيني نحو الاصطفاف ككيان موحد بعيدا أن أسباب الفرقة والشقاق الأخرى.
وتكمن مميزات المشاعر القومية في أنها سهلة التوظيف وغير مكلفة كثيرا للحزب الشيوعي، كما أنها لا تهدد سلطة النخبة السياسية التي تنفرد بإدارة دفة الحكم دون منافس. فضلا عن أن تأجيج المشاعر القومية من شأنه أن يجعل الصينيين أكثر استعدادا لحمل راية بلادهم والدفاع عنها ضد "المعتدين" اليابانيين، أو ضد باقي الخصوم التاريخيين. وخلافا للاعتقاد السائد، فإن القومية الصينية ليست مفيدة للصين فحسب، بل هي مفيدة للعالم بأسره، ذلك أنه بدون وجود قوة موحدة في الصين لا يمكن التنبؤ بتداعيات دولة تعاني من حالة التفكك والضعف على استقرار المنطقة. وفي هذا الإطار، يقوم القادة الصينيون باستغلال الاهتمام العالمي بقوة الصين والدور العالمي الذي باتت تضطلع به في المجتمع الدولي من أجل تعزيز قوة الدولة وجعل الصينيين يصطفون من ورائها.
ومع ذلك تظل هناك بعض الجوانب السلبية المرتبطة بتنامي قوة الصين التي تسعى لاكتساب نفوذ أكبر على الساحة الدولية، وربما أكثر مما ينبغي، دون إحداث أي تغيير سياسي، خصوصا أن ابتعاد الصين عن الشيوعية لا يعني بالضرورة اقترابها من الديمقراطية الغربية. وإزاء هكذا وضع لا يبقى أمام الصين إلا احتمالان: إما أن تتجه في طريق القومية والسعي وراء تبوؤ موقعها الحقيقي على الساحة العالمية، أو أن تبقى دولة شيوعية مفككة تجاهد من أجل السيطرة على شعبها بشتى الوسائل.
وبالرغم من أن القومية لا تمثل مشكلة في حد ذاتها، بل بالعكس يمكنها أن تكون الأساس الذي تبنى عليه الديمقراطية الصينية، إلا أنه يمكن كذلك لتلك المشاعر القومية المتنامية أن تكشر عن أنيابها وتظهر جانبها السيئ الذي سيطرح بلا شك مشاكل جمة للولايات المتحدة والغرب من خلال سعيها المحموم للعب دور ريادي في المشهد العالمي، هذا ناهيك عن تركيزها الحالي على اليابان بسبب اعتداءات هذه الأخيرة على ا