في فبراير من عام 2002، نشرت الدورية العلمية المرموقة "ساينتفيك أميريكان" (Scientific American) مقالا مشهورا، ذكر فيه الباحثون أن الإفراط في مشاهدة التلفزيون يعتبر نوعا من أنواع الإدمان النفسي، لا يختلف كثيرا عن أنواع الإدمان الأخرى المعروفة. ودلل الباحثون على وجهة نظرهم تلك، من خلال رصد الأعراض النفسية والجسمانية التي تصيب بعض الأشخاص، وأحيانا حتى العائلة برمتها، إذا ما منع أفرادها من مشاهدة التلفزيون لفترة زمنية. وليس من الخافي أن الكثيرين منا، ينظمون حياتهم اليومية - وخصوصا فترة المساء- حسب مواعيد إذاعة برامج أو مسلسلات معينة. هذا الارتباط الشديد لبعض الأشخاص بالتلفزيون، والتأثير الخفي غير الواضح للتلفزيون على المجتمع ككل، جعل البعض يطلقون على هذا الجهاز العجيب لقب المخدر الثقافي أو المخدر الاجتماعي (Culture Barbiturate)، واقتباسا من شعار الماركسية بأن الدين أفيون الشعوب، أصبح شعار بعض مناهضي العولمة هو أن التلفزيون أفيون الشعوب. مثل هذا التأثير الاجتماعي السياسي للتلفزيون، الذي أصبح يمتد حاليا عبر القارات والحدود، تعبر عنه ببساطة نكتة تقول إن وكالة المخابرات الأميركية، بعد أن قضت سنوات وأنفقت ملايين الدولارات في مجال بحوث غسيل المخ، تقدمت للكونجرس الأميركي بجهاز تلفزيون موصول به طبق فضائي، كأفضل حل لغسيل مخ الشعوب والدول والمجتمعات.
ولكن ماذا عن تأثير التلفزيون على الأطفال بالتحديد؟ وهل ينجح التلفزيون بالفعل في تكوين شخصية الأطفال، وتحديد ميولهم تجاه العنف والجنس؟ وهل تؤدي ساعات المشاهدة الطويلة إلى تغيرات جسدية وهرمونية في تلك الأجسام الغضة؟ هذه العلاقة بين التلفزيون والصحة النفسية والجسدية للأطفال، هي ساحة صراع وسجال وحرب ضروس. بين طابور من علماء النفس والاجتماع والتغذية، وغيرهم من المتخصصين في الصحة العامة، وبين وحش كاسر طويل الذراع واللسان، تدعمه ميزانيات هائلة تتعدى قيمتها المليارات من الدولارات، مكونة أطرافه من شبكات التلفزيون العالمية، وشركات إنتاج البرامج، وشركات الإعلانات والدعاية، وغيرها من المستفيدين من المنتجات الموجهة للأطفال. وليس من السهل تلخيص جميع جبهات الاقتتال في تلك الحرب الضروس، ولكن يمكننا هنا –وبشكل مبسط- تقسيم التأثيرات التلفزيونية على الأطفال إلى ثلاثة أقسام: تأثيرات جسدية، وتأثيرات نفسية، وتأثيرات اجتماعية.
فمثلا على صعيد التأثيرات الجسدية، يمكننا أن ندرك حجم تأثير التلفزيون، من خلال الصراع الدائر حول العلاقة بين إعلانات الأطعمة والأغذية وبين صحة الأطفال. فمنذ وقت ليس بالقريب، والناشطون في هذا المجال يزعمون أن شركات الأغذية تستغل التلفزيون استغلال سيئاً، لتسويق أطعمة غير صحية وضارة أحيانا بالأطفال. ويلقي هؤلاء باللوم إلى حد كبير على تلك الإعلانات، خلف التسبب في وباء السمنة الذي ينتشر حاليا بين أطفال العالم. فحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، يوجد بين من هم دون سن الخمس سنوات، 22 مليون طفل حول العالم مصابين حاليا بالبدانة. وباء السمنة هذا، ومحاولة الحد من انتشاره، هو ما دفع الحكومة السويدية قبل سنوات، إلى منع الإعلانات الموجهة إلى من هم دون سن الثانية عشرة منعا تاما. وتقترب الحكومة البريطانية يوما بعد يوم من اتخاذ موقف مماثل لموقف الحكومة السويدية، من قضية الأطفال وإعلانات الأغذية. ففي الخريف الماضي، نشرت مفوضية الأغذية البريطانية ورقة عمل، أشارت فيها إلى ضرورة أن يتخذ المعلنون موقفا أكثر مسؤولية تجاه تسويق الأغذية للأطفال بحلول عام 2007، وإلا فعليهم مواجهة القوانين والتشريعات.
ولا تتوقف مسؤولية التلفزيون في المساهمة في وباء السمنة العالمية، عند حد الإعلانات فقط، بل تمتد أيضا إلى انعدام النشاط الحركي أثناء مشاهدته. فبخلاف الرياضات المختلفة مثل السباحة ولعب الكرة، أو حتى المشي والتسوق، لا تترافق مشاهدة التلفزيون بأي نشاط بدني يذكر. وهو ما يؤدي إلى انخفاض استخدام السعرات الحرارية المتضمنة في الوجبات الغذائية، ومن ثم تراكمها على شكل دهون في البطن والأرداف وغيرها من مناطق الجسم. هذا الوضع دفع بعض الدول إلى البدء في برامج اجتماعية تهدف إلى خفض عدد ساعات المشاهدة التلفزيونية للأسرة وأفرادها. فمثلا في هولندا، نجحت هذه البرامج في خفض وزن الكثيرين بشكل درامي، من خلال خفض عدد ساعات مشاهدة التلفزيون بمقدار النصف فقط ليس إلا. وربما كان أغرب الاتهامات الأخرى التي توجه للتلفزيون، هو الاتهام بمسؤوليته عن وصول الأطفال في العالم الغربي إلى مرحلة البلوغ الجنسي في سن مبكرة. فمنذ سنوات والعلماء يلاحظون أن الأطفال في أوروبا وأميركا الشمالية، أصبحوا ينضجون جنسيا في أعمار أصغر وأصغر باستمرار. ويفسر البعض هذه الظاهرة، بأن مشاهدة التليفزيون لساعات طويلة تؤدي إلى اختلال في التوازن الهرموني داخل أجسام هؤلاء الأطفال، وتدفع بهم إلى النضج الجنسي في سنوات مبكرة.
وجدير بالذكر هنا أن إصبع الاتهام أصبح يوجه أيضا ل