كارلوس ميسا: استقالته وضعت بوليفيا على المحك


 مع تصاعد الرفض الشعبي ووتيرة الاحتجاجات الغاضبة ضد سياسات الطاقة في بوليفيا، توشك دولة السكر التي تصنفها التقارير الاقتصادية للأمم المتحدة كأفقر شقيقاتها في أميركا اللاتينية، على العودة مجددا إلى مربع الانسداد الداخلي، بعد قبول استقالة الرئيس البوليفي كارلوس ميسا وتنحيه عن الحكم وتعيين رئيس بوليفي جديد هو إدواردو رودريغيز, وتأديته القسم الدستوري أمام الكونغرس, بعد موافقة البرلمان البوليفي. وكان البرلمان قد اختار رودريغيز, رئيس المحكمة العليا رئيسا مؤقتا لبوليفيا, بعد أن ألغى الجلسة التي كانت مخصصة, لمناقشة استقالة كارلوس ميسا, وذلك بسبب مقتل أحد عمال المناجم بعد تعرضه لإطلاق نار خلال تصاعد الاحتجاجات. المسلسل البوليفي الدرامي, يفتح حلبة الصراع فسيحة بين فرقاء الحقل السياسي، في وقت تشهد البلاد موجة اضطرابات وقلاقل غير مسبوقة.


والحقيقة أن قرار ميسا بتقديم استقالته إلى الهيئة التشريعية البوليفية (الكونغرس) يعكس إلى حد معين ما توصل إليه الأخير حول الأزمة البوليفية وربما استحالة تفكيك إشكالاتها. وقد سبق لميسا أن قدم استقالته في مارس الماضي إلى الكونغرس الذي رفضها في حينه، وذلك على خلفية الاضرابات التي تفجرت إثر سن قانون يفرض ضرائب على شركات النفط العاملة في مخزونات الغاز البوليفي والتي تعد الأكبر من نوعها في أميركا اللاتينية؛ حيث اعتبر المتظاهرون أن القانون لا يكفي وطالبوا بتأميم قطاع الغاز!


إلا أن الأزمة الحالية تنطوي على تناقضات تنذر بمخاطر داخلية كبيرة؛ فبينما يطالب متظاهرون، معظمهم من سكان المناطق الجبلية الفقيرة في الغرب ومن أعضاء النقابات العمالية والحركات اليسارية، بتأميم قطاع الطاقة البوليفي وبإجراء إصلاح دستوري يمنح مزيدا من الحقوق لسكان البلاد الأصليين (وهم الهنود الحمر الذين يشكلون نسبة 60% من العدد الإجمالي للسكان والبالغ نحو 9 ملايين نسمة)، يطالب في المقابل سكان الأقاليم الشرقية والجنوبية (ذات الأغلبية الناطقة باللغة الأسبانية) بحكم ذاتي وبسياسات مرنة لجذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية.


وأمام ذلك الانقسام الحقيقي، حذر ميسا من أن بلاده "تسير نحو هاوية الحرب الأهلية"، وصادق في الأول من الشهر الجاري على تنظيم استفتاء في أكتوبر القادم حول إعطاء الأقاليم النفطية نوعاً من الحكم الذاتي لحل الأزمة، كما دعا في خطاب استقالته إلى أجراء انتخابات عامة على الفور، وطالب رئيس البرلمان هورماندو ناسا دييز بالتخلي عن حقه الدستوري في تولي الرئاسة، وبالدعوة لانتخابات مبكرة بدلا من ذلك...وهذا ما سيضطر الرئيس الجديد رودريغيز للدعوة إليه قريبا.


وبتقديم استقالته، مقترحا التهدئة وإجراء الترتيبات الدستورية اللازمة، إنما حاول ميسا تفادي مصير سلفه دي موانز سانشيز دي لوزاردو الذي شاهده يذعن ويتنحى عن سدة الرئاسة تحت الضغط الهائل للشارع البوليفي ومظاهراته خلال "حرب الغاز الأولى"، لكي لا يكون ميسا هو أيضا ضحية "حرب الغاز" الثانية. وقد بلغ كارلوس ميسا موقعه المتقدم في المشهد السياسي البوليفي بعد فوزه كنائب لمرشح الرئاسة لوزاردو على بطاقة واحدة في أغسطس 2002. وبدا التباين حينئذ واضحا بين الرئيس ونائبه؛ فالأول ليبرالي "مفرط" في تبني فكرة السوق، درس في الولايات المتحدة، ويتزعم حزب "الحركة الوطنية الثوري"، وقد جاء/ عاد إلى الرئاسة وفي جعبته تجربة حكمه للبلاد بين عامي 1993 و1997، أي الفترة التي شهدت أوسع إصلاح ليبرالي في بوليفيا.


 أما كارلوس دياجو ميسا جيسبيرت المولود عام 1953، فمثقف متميز ومؤرخ له العديد من الكتب حول تاريخ بلاده وعلاقتها بالاستعمار الأسباني، كان مذيعا ومقدم برامج شهيرة في التلفزيون البوليفي قبل أن يصبح نائبا للرئيس، وهو مستقل لا ينتمي لأي من التشكيلات السياسية القائمة، كما أنه ليس من ذوي الجيوب الضخمة وأصحاب السوابق في إساءة استخدام المال العام؛ لذلك مثل اختياره في أكتوبر 2003 من طرف الهيئة التشريعية كي يحل محل لوزاردو رئيسا للبلاد، موضع تفاؤل لغالبية البوليفيين. ويومها شكل ميسا حكومة على نحو غير معهود في بوليفيا؛ إذ ضمت تكنوقراط مستقلين وممثلين عن السكان الهنود الأصليين، إضافة إلى ضابط عسكري واحد أسندت إليه حقيبة الدفاع. وكان من نتائج الهبة الاجتماعية التي سميت "حرب الغاز"، وسقط خلالها 80 قتيلا و400 جريح، ونتج عنها إسقاط لوزاردو ونفيه، أن تراجعت شعبية الأحزاب السياسية المهيمنة على البرلمان، الأمر الذي أعطى للرئيس ميسا مجالا مهما لإدارة التناقضات وتصريفها خلال 19 شهرا الماضية، بينما لم يستطع سلفه لوزاردو البقاء أكثر من 14 شهرا بسبب إبرامه صفقة لتصدير الغاز الطبيعي إلى الولايات المتحدة اعتبرها "هبة الرب"، ففجرت ثورة شعبية أطاحت حكمه على مرأى ومسمع من الجيش!


 وإذا كانت جل الظروف والأس