كان سمير قصير يتدثر بحبر قلمه، وأفكاره، وفتافيته الصغيرة، ويسترجع ذكرياته وهو يحمل مفتاح سيارته متجهاً إليها، مفكراً في ما سيتحف به قراءه في عموده غداً. هل يحدثهم عن ديمقراطية لبنان الأمس المغدورة، المذبوحة من الوريد إلى الوريد، أم عن مستقبل لبنان الغد الباهر... الذي يأتي ولا يأتي؟ هل يتوكأ على آلام الماضي بحربه الأهلية، وناسه البسطاء الطيبين الذين هجروا قراهم الوادعة، وحملوا أشياءهم الصغيرة، وتوزعوا على أقساط في المنافي البعيدة والقريبة، أم عن الأشد غربة منهم, من ظلوا حبيسي غربتين في الوطن على رغم قرب الدار وسهولة المزار. هل يتطلع إلى فجر لبنان المتألق الذي بدأت تباشيره تقرع الأبواب بقوة الآن تلهب المشاعر وتخطف الأبصار، وظهرت فيه أسماء جديدة لمدينة واحدة، وأعيد إلى بيروت بعض من ملامحها ورائحتها المميزة. رائحة تلك المدينة الفينيقية عجيبة، غريبة، تذهب بسرعة، ولكنها تعود بسرعة أيضاً. ما أن يظن المتنافسون على تنسُّم رائحتها وتذوق بهاراتها المميزة، المحتشدون كخطـَّاب بنلوبي على أبوابها، أنها وشيكة على السقوط في هواهم، حتى تستعيد شيئاً من عزة وتمنـُّع، وتعود في حالة نشر جديدة كطائر الفينيق، الذي يبعث من رماده كلما ظن الناس أنه مات.
بدأ خطـَّاب بيروت المزعومون في التفرق منهكين في دروب ودهاليز أنفسهم الخلفية، وألقت بيروت مِغزلها، ودخلت مرحلة الإعداد لعرسها الحقيقي. وسمير قصير العارف بلغة بيروت الخاصة، الواقع في هواها حتى الثمالة، والمرتبط مع نسغها بحبل سري، قرر اليوم أن يستعيد ذكريات كتابه الذي ألفه عن تاريخ حبيبته بيروت. لقد حسم أمره، سيكتب عموده اليوم عن دخول محبوبته في الأجواء النفسية للعرس بعد طول انتظار، وبعد أن انزاحت أخيراً عنها أشباح حفلة تنكرية استمرت طويلا... فكرة العمود أصبحت جاهزة الآن، ولم يبق سوى إنزالها على الورق الأبيض. أدار سمير قصير المفتاح في باب السيارة، وحين استقر على المقعد انفجر كل شيء. لقد فعلوها، مرة أخرى... لقد أطفأوه في يوم عيد ميلاد حبيبته.
سمير عبدالله - لبنان