يطرح رئيس الوزراء الفرنسي الجديد دومينيك دوفيلبان، في كتابه "سمك القرش والنورس البحري"، الصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث بدولة قطر، موقفاً جديداً لدور الحداثة في حياة الشعوب، وكيف أن ردة الفعل - لدى الشعوب الفقيرة والحائرة- تكون بين الصدمة والصراع النفسي والاجتماعي، ما يؤدي إلى زيادة تمسك هذه الشعوب بهوياتها القديمة، وكأنها المنقذ الوحيد لها من التفكك والانهيار الناتج عن الانصهار في الحداثة والعولمة. ويعارض المؤلف نظرية "هنتينغتون" عن صدام الحضارات، حيث يذكر أن علاقات مثمرة نتجت عن تلاقي الحضارة الغربية وحضارة الإسلام عبر ضفتي المتوسط، وأن العلاقات بين الشرق والغرب اعتمدت على شكل التمازج والمشاطرة أكثر مما اعتمدت على المواجهة والصدام.
ويأتي بمثال الصين واليابان، حيث انغلقت الأولى على ذاتها، ولم تستفد من العلوم الغربية، وغاصت في بحور الغرور، فما كان منها إلا التخلف، على عكس اليابان، التي قبلت بالانفتاح على الغرب، ولم تنظر إلى المعرفة والعلوم الغربية على أنها "تُدنّس" تراثها وتقاليدها. وكان من نتيجة ذلك أنها انتصرت على الصين عام 1890 وعلى روسيا عام 1905، وأصبحت من عمالقة دول العالم في التقدم والقوة والصناعة، على عكس الصين التي غرقت في الفوضى ونالها الذل على أيدي الغرب. ويؤيد الكاتب وجهة النظر التي تؤكد أن الحضارات عندما تكون واثقة من نفسها، تنفتح على الآخر. وعندما تنغلق على ذاتها تعيش أزمنة الانحطاط.
ونحن في العالم الإسلامي والعربي رفضنا -أو رفض السابقون علينا- فكرة التلاقي مع الغرب• وركزنا مقولاتنا على "تراثيات" ومقولات استخدمتها الأنظمة المتعاقبة كي تُرسي بقاءها، وتجعل من الشعوب أكثر جهلاً وأمية، وكنا دوماً نغرق في تفسيرات بعض الجهلة من أن التعامل مع الغرب كفرٌ وبهتان. ورغم الغزوات وحملات نشر الإسلام إلى أواسط آسيا والأندلس - حيث تأسست الدولة الأموية خارج الإطار العربي- إلا أن رفض الآخر الذي صاحب التفكير في مراحل لاحقة أضعف دولة المركز، وصار التراجع في حدود الدولة الإسلامية. وكان من نتائج ذلك سقوط الأندلس وعودتها إلى الأصل السابق، وانحسار المدّ الإسلامي في آسيا. ثم انقلبت الآية ليبدأ المغول "غزواتهم" ويحرقوا بغداد ويغرقوا نفائس علومها في النهرين، ويصلوا إلى مصر في عهد المماليك.
وظلت المنطقة العربية بعد ذلك رهناً لاستعمارٍ فرنسي أو بريطاني، وظهرت الدعوات من جديد، ليس على أيدي رجال الدين هذه المرة، بل على يد رجال السياسة والمفكرين، الذين انتقدوا وحاربوا أي نزعة أو اتجاه نحو التعامل مع المحتل، ورفض منتجاته وآرائه ونسف كل محاولاته تحديث المجتمع الذي يرزح تحت وطأة الجهل والاستعباد. ولعل الحملة الفرنسية على مصر خير دليل على انتباه الغرب لحركات المقاومة، فكان أن أحضرت الحملة بقيادة نابليون المطبعة، كمؤشرٍ ثقافي لتحديث الكتابة.
أنا لا أبرر الاحتلال هنا، ولا أناقش توزيع هذا العالم بعد "سايكس- بيكو"، لكنني أناقش فكر التعامل مع الحداثة من منظور إنساني بحت، مستحضراً النموذج الياباني الذي لم تُفقده الحضارة الغربية تقاليده أو تؤثر على ذهابه إلى المعبد. واستحضرُ فكر "ابن رشد" الفيلسوف الذي حاول المواءمة بين الدين والعقل، وأنه لا يجوز أن يرفض أحدهما الآخر.
لكننا في مسألة الفلسفة ذهبنا بعيداً جداً، عندما رفضت بعض الدول الفلسفة أساساً، وأنها قد تقضي على الإسلام وتهدد استمراره. وهكذا حصل الالتباس بين الدين والعقل، وزادت الدول الإسلامية في انغلاقها، ورفضها التعامل مع المنطق أو مخرجات الحضارة الغربية، وكان ذلك مؤشراً لما ذهب إليه "دوفيلبان" من أن الحضارة الواثقة القوية هي التي تنفتح على الآخر وتتعامل معه ولا ترفضه.
وكان من نتائج الانغلاق، ورفض الحداثة فكراً وسلوكاً، أن انتشرت الأمية، وظلت مدارس التعليم تؤكد الانغلاق وتحث عليه، وتَرْجمُ الآخر - مهما كان- فحصل ما لا يمكن أن يؤدي إلى التلاقي بين الدين والعقل، وسلبت الحكومات العربية - في مناطق شتى من الوطن العربي- العقل من المواطن وأبقت لديه الدين! أجل لقد أعطت أغلب الحكومات العربية الدين للمواطن، لكنها قامت بالتفكير بدلاً منه... والتخطيط بدلاً عنه... وتأمر بشيء وتنهى عنه بدلاً منه!
لذلك، لم نجد بين أبناء هذه الأمة من العلماء المحدثين الذين يمكن أن نقارنهم بالعلماء اليابانيين أو الأوروبيين، ولذلك همشت الحكومات دور العلوم والتكنولوجيا وزادت جرعات العلوم النظرية في مناهجها التعليمية، وركزت على منهجي اللغة العربية والدين بطريقة الحفظ والتلقين الأفقي الذي لا يسمح بالمناقشة أو الاعتراض على أية فكرة، قد تكون جانحة، وراجت قبل خمسة عشر قرناً!
صحيح هناك عالمان أو ثلاثة نفخر بهم في المجالس، لم يتربّوا في البلاد العربية، كون هذه البلاد لم تسمح لهم باستخدام العقل، وإن ألهبت ظهورهم بالعصا لممارسة الدين. لكن ذلك لم يكن ظاهرة يمكن مقارنتها بالظواهر الحية التي أفادت البشرية وح