مراقبة الجانب الفكري من المشهد الثقافي العربي تشير إلى ممارسات غير صحية وأطروحات محيّرة. وهذا على الأخص في حقلي الفكر السياسي والاجتماعي. دعنا نأخذ مثالين لموقفين متواجهين. المثال الأول يتمثّل في إشكالية الإصرار من بعض من يعتبرون أنفسهم حداثيّين على استعمال ألفاظ أو مفاهيم لا تخدم قضيتهم بسبب الاختلافات الكثيرة التي تحيط بها أو الغموض الذي يصاحبها أو انتماء أصل استعمالاتها إلى مجتمعات أخرى غير عربية وإلى أزمنة بعيدة لا تشابه الأزمنة العربية الحاضرة. من الأمثلة الصارخة على ذلك إشكالية الإصرار على استعمال لفظ العلمانية بالرغم ممّا يصاحبها من سوء فهم. فاشتقاق هذا اللفظ (هل هو من العلم أم من العالم؟) مختلف عليه، ومدلولات اللفظ التاريخية وتطبيقاته العملية مرتبطان أشدّ الارتباط بالصّراع الماضي المرير في أوروبا بين سلطة الكنيسة الدنيوية من جهة وبين مختلف السلطات المجتمعية الأخرى، سياسية وغيرها، من جهة أخرى. وحتى في الوقت الحاضر هناك تباين في مدى حضور العلمانية الفعلي وفي أشكال تجلياتها في مختلف المجتمعات الغربية. وبالتالي فهي سيرورة لم تستقر بعد ومفهوم ملتبس.
من هنا نادى بعض المفكرين العرب بإسقاط لفظ العلمانية من القاموس الفكري السياسي العربي وتقديمه للإنسان العربي من خلال بعض مكوناته الأساسية الكبرى غير المختلف عليها ممثلة بمفهومي العقلانية والديمقراطية. ذلك أن إعلاء شأن العقل في كل مناحي الحياة العربية والأخذ بالنظام الديمقراطي سيحلُّ الغالبية الساحقة من الإشكاليات المجتمعية التي يرغب العلمانيون العرب في حلّها.
المثال الثاني يتمثّل في إشكالية إصرار بعض المفكرين والممارسين الإسلاميين على رفض إدخال كلمة الديمقراطية في القاموس السياسي العربي, والإصرار على مساواتها بكلمة الشورى أو كحلٍّ وسط استعمال كلمة " شوريقراطية". وبالرغم من أن الإصلاحيين الأوائل والعديد من حركات الإسلام السياسي المعتدل قد أكَّدوا مراراً على انسجام الإسلام مع النظام التمثيلي النيابي والكثير من المبادئ والممارسات الديمقراطية، إلا أننا لازلنا نسمع ونقرأ ونشاهد الممانعات من هذا أو من ذاك. ولا يريد هؤلاء أن يفهموا أن كلمة الديمقراطية تحمل مبادئ وأنظمة وممارسات مترابطة مع بعضها بعضاً، وأنها حصيلة تجربة إنسانية ناجحة طويلة، وأنها تنقل السياسة إلى مستويات إنسانية عليا، وأن التوجيه القرآني للنبي الكريم وللمؤمنين بضرورة ممارسة الشورى يعزّز ويغني ذلك النظام البشري ولا يلغيه. والنتيجة أن تؤدي هذه الممانعة المصطنعة إلى بذر بذور الشك في عقول عامة العرب والمسلمين حول مفهوم وكلمة هما في قلب المعركة التاريخية الحالية مع رموز ومؤسسات وفكر الاستبداد الذي طال ليله وجحيمه.
نحن أمام موقفين لاعقلانيين، واللاعقلانية لها ثمن. للفنان "غويا" لوحة لرجل يجلس أمام طاولة ورأسه مُلقى على الطاولة وهو يغطُّ في نوم عميق. من حول الطاولة ظلال تطل منها وجوه شيطانية. على الطاولة رسمت لوحة كتب عليها: عندما ينام العقل تظهر الشياطين. في حاضر الأمة العربية عدد لا حصر له من شياطين الخرافات والممارسات الهوجاء وقلة الإنتاج والحيلة وهيمنة الاستبداد والظلم. كل ذلك بسبب نوم العقل. وبدلا من أن يركّز المفكرون جهودهم على إيقاظه وطرح مخارج فكرية لطرد أولئك الشياطين أولاً, فإنهم مهووسون بسحر كلمات الغير ومعارك الآخرين وبخوض معارك طواحين الهواء.
إن إصرار البعض على إدخال العرب في معارك مع الدين بدلاً من التفرغ لمقارعة ممارسات اللاعقلانية ولإلحاق الهزيمة بمؤسسات الاستبداد أمر محير, ولا تفسير له إلاّ التعامل السهل مع الأطروحات الفكرية كموضة أو شعار أو بعبع بدلاً من عناء الغوص العميق في محتوياتها لاختيار الملائم منها لواقع الأمة والمناسب منها لهذه المرحلة التاريخية التي نعيشها. ألم يئن الأوان لإيقاف عملية إنهاك هذه الأمة بإدخالها في دوامة الاختيار ما بين التقليد البليد أو الرفض الأعمى؟.