إن الرفض الحاسم للدستور الأوروبي من قبل الشعب الفرنسي يوم التاسع والعشرين من مايو، ستكون له تداعيات خطيرة على مستقبل أوروبا وعلى الدول الطامحة في الانضمام للاتحاد الأوروبي مثل تركيا، وعلى قوة أوروبا ونفوذها في بقية أنحاء العالم وخصوصا في الشرق الأوسط. إن الغالبية العظمى ممن صوتوا بالرفض على الدستور لم يكونوا من المؤمنين بأن الاتحاد الأوروبي هو أفضل من يحقق مصالحهم، وكانوا غاضبين من السياسات الداخلية للرئيس جاك شيراك، وخائفين من أن يؤدي التصويت بـ" نعم" إلى خلق أوروبا أكثر ميلا نحو الأنجلوسكسونية، وذات مناخ تجاري أكثر تنافسية، وأقل تركيزا على الخدمات الاجتماعية المدعومة.
وعلى الرغم من أن التصويت بالرفض على الدستور ستترتب عليه تداعيات مهمة بالنسبة لشيراك ومجلس وزرائه - تم بالفعل استبدال رئيس الوزراء- فإن التداعيات الأكثر خطورة هي تلك التي تتعلق بالاتحاد الأوروبي. فبعد أن قام الاتحاد في الآونة الأخيرة بزيادة عدد أعضائه إلى 25 عضوا، فإن المنتظر بعدما حدث يوم التاسع والعشرين من مايو، أن يقول الأعضاء الجدد لأنفسهم: أي اتحاد هذا الذي تقوم دولتان من دوله المؤسسة المهمة برفض دستوره الجديد؟ وردود أفعال الأعضاء الجدد على التصويت بـ" لا" على الدستور الأوروبي، سوف تكون محسوسة بشكل خاص في الدول التي تقدمت بطلبات لنيل عضوية الاتحاد وخصوصا تركيا، التي قد تجد نفسها الآن مضطرة إلى إعادة تقييم رغبتها في الانضمام لعضوية الاتحاد، واحتمالات الموافقة على الطلب التي تقدمت به في هذا الخصوص.
لقد كان هناك دون شك تيار خفي من العداء تجاه طلب تركيا الخاص بالحصول على عضوية الاتحاد في أوساط العديد من الناخبين الفرنسيين الذين صوتوا بالرفض على الدستور. ومن المؤكد أن يؤدي هذا الرفض الآن إلى مفاقمة المشاعر المعادية لتركيا في ألمانيا وهولندا على وجه التحديد بسبب وجود جاليات تركية ومسلمة كبيرة فيهما.
وتمثل نتيجة التصويت مأزقا كذلك لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير الذي فاز مؤخرا في الانتخابات، وحصل على فترة ولاية ثانية، وكان يجهز نفسه لتولي رئاسة الاتحاد الأوروبي هذا الصيف. وبلير، المعروف عنه أنه من المؤيدين بقوة للاتحاد الأوروبي، سيواجه الآن مهمة صعبة تتمثل في حشد شركائه وتجميع صفوفهم في أعقاب الرفض الفرنسي. وعلى الرغم من أن البريطانيين متذبذبين للغاية بشأن أووربا، فإن بلير نفسه وعد بتنظيم استفتاء على الدستور المقترح، ولكن بعد أن ترسخ موقف الرافضين للانضمام لأوروبا من البريطانيين بعد نتيجة الاستفتاء الفرنسي، فإن بلير أعاد النظر في هذا الوعد.
والأمر المؤكد أيضا أن نتائج التاسع والعشرين من مايو سوف تعزز موقف حزب المحافظين المعارض في بريطانيا، كما يمكنها كذلك أن تؤثر على اختيار الحزب لقائد جديد يحل محل "مايكل هوارد" الذي قاد الحزب لهزيمته الثالثة على التوالي.
وفيما يتعلق بالأصداء الأوسع مدى في الشرق الأوسط، فإن الارتباك والاضطراب السياسي المحتم حدوثه عقب نتيجة الاستفتاء سواء في بروكسل أو في غيرها من العواصم الأوروبية، سوف يضعف دون شك الجهود الأوروبية الساعية للقيام بدور حاسم في أزمات الشرق الأوسط وخصوصا في العراق وإيران وعلى جبهة الصراع العربي- الإسرائيلي. والآن، والرئيس الفرنسي يلعق جراحه بعد الهزيمة... والمستشار الألماني يترنح بسبب الخسائر التي مني بها حزبه في الانتخابات الألمانية الأخيرة، فإن أعلى المنتقدين لجورج بوش صوتا بشأن موضوع العراق، أصبحا أقل قدرة بكثير على تحدي قراراته في القضايا الرئيسية. ومن المنتظر الآن، وبعد أن تم رفض الدستور، أن تدخل أوروبا في مرحلة جديدة من مراحل البحث في أعماق النفس، وأن تتقلص- إلى حد كبير- طاقتها على التصدي للمسائل الدولية الكبرى مثل الفقر والعنف في أفريقيا، وتصاعد القوة الاقتصادية للصين والهند. ولكن، وبما أن التجربة التاريخية قد أثبتت دوما أن المشاكل التي تحدث في أوروبا تمتد لغيرها بسهولة، فإن مصلحة الولايات المتحدة وأصدقائها الآخرين في أوروبا تدعوها للتمسك بالأمل في أن تكون الأزمة الحالية قابلة للحل، وأن تحاول أن يأتي هذا الحل اليوم قبل الغد.