لسنا خبراء في المال والأعمال، ولا الاقتصاد والتجارة، ولا حتى الحدادة والنجارة، لكن يحق لنا أن نتساءل: هل ما يجري في أسواقنا المالية هو فعلاً اقتصاد؟
البورصات عندنا تحولت إلى ليلام عصري بالكمبيوتر والشاشات العريضة وعلى التلفزيونات، وكل من لا عمل له صار يجد في هذه البورصات قدماً، وصار يضع قدماً على ساق فيبيع ويشتري. المتقاعدون هرعوا لهذا الليلام. ربات البيوت أرسلن المندوبات الفلبينيات والسريلانكيات، الموظفون رأوا الحفلة ساخنة فتسربوا من الوظائف بالساعات وبعضهم قيل استقال لكي يحظى بحصة من حلوى الأسهم الحارة. وتزاحم الخبراء والسماسرة على الشاشات لكي يحللوا (من التحليل لا من الحلال والحرام). فمرة هم يصفون السوق بالصحي والنشط حين تصعد الأسهم. ومرة يصفونه بأنه يُصحح حين تهبط. وحين يتكبد البعض خسائر يطالبون بالتدخل... ما هذه الهيصة؟ هل هي اقتصاد؟
سوق الاكتتابات الأولية هو أيضا هيصة. كل شهر شركة أو شركتان تطرحان أسهمهما للاكتتاب. البنوك تشحذ هممها ونواجذها وتمول مئات المليارات من الدراهم على الورق، حتى فاق بعضها ما تملك الدولة كلها من ثروة. أموال تتدفق من الخارج للمشاركة في هذه الزفة المتواصلة الشهرية فتحصد الأرباح وتغادر، هل هذا فعلاً اقتصاد؟
لم نرَ في بلدان العالم المتحضر التي تعلمنا منها ألف باء الاقتصاد الحر، مثل هذا الليلام ولا مثل هذه الهيصة و"الزمبليطة"، لا في اليابان ولا أميركا، لا في إنجلترا ولا ألمانيا، لا في ماليزيا ولا سنغافورة. هل نحن أكثر ثراء من هذه الدول واقتصادنا أقوى منها، حتى نرى عندنا مثل هذا الليلام؟
يقولون هذا هو السوق، السوق الذي يخلق الفرص، الفرص للربح السريع والخسارة السريعة أيضاً، لا تهم المعايير الاقتصادية الحقيقية. لا يهم إذا كانت الشركات فعلاً قوية ومستقبلها مشرق أم يشوبه الغموض. لا يهم ما تملك من أرصدة واستثمارات وقيمة دفترية فعلية لأسهمها، المهم الدخول في السوق وفي الاكتتابات الأولية، ثم الخروج بسرعة بأرباح ممكنة، بعضها كما سمعنا فلكي، حتى باتت شركات في بطن الغيب ولم يتم الاكتتاب فيها بعد تُطرح أسهمها للبيع... هل هذا اقتصاد؟
وماذا عن تجارب الشركات الخاسرة؟ لماذا لم تنجح؟، وماذا عن مالكي الأسهم فيها؟. لا أحد يتحدث عن الخسارة... الكل يتحدث عن أرباح وعن أسهم جديدة، حتى شيابينا, صيادو السمك دخلوا السوق، فحشر مع الناس عيد، وهؤلاء على طريقتهم سموا الأسهم بأسماء السمك، فـ"إعمار" شيفرته الكودية عندهم هامور، و"تبريد" شيفرته الصافي، و"الاتحاد العقارية" شيفرتها شعري، وهكذا... حتى نصل إلى البدح والعومة، بارك الله في شيابنا على تحديهم الشباب في السوق المالي، فهذا الميدان يا حميدان ... هل هذا اقتصاد فعلاً؟
شركة في الاستثمار العقاري، ثم أخرى في الاستثمار العقاري... ثم ثالثة في الاستثمار العقاري, ثم رابعة في الاستثمار العقاري ووزارة الاقتصاد لا تتدخل ولا تحتج، وتترك الحبل على الغارب، وكأن البلد في حجم الولايات المتحدة ويحتاج إلى عشر شركات عقارية تبني كلها مجمعات وأبراجاً وفنادق، وشركات أخرى قائمة, كل ثلاثة أشهر تمنح أسهم منحة، أو تجزئ الأسهم، فتطير أسهمها هذه في سماء البورصة، حتى كاد الجنون
يصيب الناس، ويصيبنا، لأنه حيثما ذهبنا لا نسمع أحاديث سوى عن الأسهم الطائرة... الأسهم النارية. ولا حديث عن التعليم والصحة والمشكلات الأخرى. كل شيء عن الأسهم. ولن نستبعد غداً فتح عيادات خاصة لمعالجة مرض جديد اسمه "أسهم سيندروم"، فزبائن هذه العيادات على الطريق... هل هذا اقتصاد فعلاً؟
ماذا تفعل هذه الشركات المسجلة في البورصة والأخرى التي في الطريق أكثر من بناء العمارات والشقق والعقارات، والشركات الأخرى تخدّمها بالتبريد والكهرباء والخطوط الهاتفية والصيانة والتمويل والتموين... هل هذا اقتصاد فعلاً؟ لسنا خبراء كما قلنا في الاقتصاد، لكن يحق لنا أن نتساءل: هل هذا اقتصاد فعلاً؟
إذا كان كذلك، وهذا الاقتصاد تتحدث عنه تقارير سوق المال عندنا بالمليارات فنحن إذاً على أعتاب الدخول في نادي السبعة الكبار، وعلى منظري اقتصادنا الجديد أن يتقدموا بطلب العضوية فوراً فيجلس الواحد منهم إلى جانب شرويدر وكويزومي وبيرلسكوني وبلير وغيرهم, على طاولة واحدة. وإذا كان هذا هو اقتصاد فعلاً فلماذا ميزانية دولتنا تتراوح منذ أعوام في حدود الرقم عشرين مليار درهم لا غير، أي في حدود ميزانية أصغر الشركات اليابانية أو الإيطالية أو الألمانية؟ هل هذا اقتصاد أم أنه وسيلة حديثة للتربح ولجني المال السريع من قبل المتمولين والممولين على السواء، سواء أكان هؤلاء بنوكاً وطنية إسماً أو غير وطنية، أم شركات أم أفرادا أم جماعات لوبي اقتصادي طفيلي جديد؟
هل هذا حقاً اقتصاد؟ إذا كان كذلك فلماذا ليس عندنا بعد صناعة وبضاعة نصدرها إلى الخارج، فتزيد من دخلنا القومي؟، ولماذا ليس عندنا بعد ضرائب تساهم في زيادة الميزانية الاتحادية فنحسّن عن طريقها مستوى التعليم وال