تخيل معي هذا السيناريو: افترض أن هناك دولة بلا زعيم، وأن هذه الدولة على وشك أن تتحول إلى أرض لتفريخ الإرهاب· وأن القوات المسلحة الأميركية قد انخرطت في عملية مطاردة مكثفة، من أجل أسر الرأس المدبر الذي يقف وراء عمليات حرب العصابات المتنامية·
عندما تدهمنا المأساة فإن الأمور تبدو وكأنها آخذة في التدهور على عكس ما يقال لنا· طائرة عسكرية أميركية يتم إسقاطها بواسطة صاروخ يحمل على الكتف· ما يزيد على عشرين أميركيا يفقدون حياتهم· السكان المحليون يحتفلون· والمهمة تتخذ منعطفا نحو الأسوأ· هل يبدو هذا السيناريو مألوفا؟
الأمر الذي يدعو للاستغراب هو ذلك التشابه الشديد بين إسقاط طائرة تشينوك العمودية في (الفلوجة)، في العراق الأسبوع الماضي، وبين ذلك القتال بالنيران الذي جرى في (مقديشيو)، في الصومال عام 1993، وتم تصويره في فيلم (سقوط النسر الأسود)·
ونظرا إلى أن الهجمات في العراق تنتج حصادا يوميا من القتلى، فإن السؤال الجوهري المطروح الآن هو: هل يعكس الرأي العام الأميركي بشأن العراق، الاتجاهات نفسها التي قام بعكسها بشأن الصومال؟
حتى الآن حظيت عمليات العراق بدعم أغلبية الرأي العام في أميركا· ولكن إلام تتوقع إدارة بوش أن يستمر هذا الدعم؟ الإجابة على هذا السؤال ستتوقف على مستوى الخسائر اليومية من الجنود الذين يقتلون في المعركة، والذي يستطيع الشعب الأميركي تقبله· فوفقا لاستطلاع رأي جديد تم إجراؤه من قبل علماء متخصصين في السياسة، تبين أن الأميركيين لديهم مستويات مختلفة بالنسبة لعدد الخسائر اليومية من الجنود الذين يقتلون في المعركة، الذي يستطيعون القبول بالتضحية به·· علما بأن ذلك المستوى يتوقف على نوعية المصالح الأميركية المهددة، وعلى التبريرات التي يتم تقديمها، والأهداف التي يجري إنجازها·
فعلى سبيل المثال، كان الرأي العام الأميركي على استعداد لتقبل سقوط عشرات الآلاف من القتلى في الحرب الفيتنامية في البداية، وذلك قبل أن تنقلب أغلبيته على تلك الحرب· وتشير الأدلة إلى أنه على رغم أن عدد من قتلوا أثناء العمليات العسكرية في حرب الخليج عام 1991 قد بلغ 148 جنديا، فإن الأميركيين كانوا على استعداد للقبول بسقوط عدد من الجنود يتراوح ما بين 500 - 1000 قبل أن يقوموا بالمطالبة بالانسحاب من هناك · ولكن ما هو عدد الخسائر الذي يستطيع الأميركيون استيعابه في العراق؟
النبأ السيئ بالنسبة لإدارة بوش هو أن الحملة الحالية قد تحولت إلى عملية سلام بأكثر مما هي عمليات حرب· فبعد أن تمت إزالة التهديد الرئيسي الذي اتخذ مبررا لشن تلك الحرب، فإن الأهداف المتبقية أصبحت تتمثل في معظمها في عمليات بناء أمم، وعمليات حماية للقوات الموجودة· ولهذا السبب فإن المخاطر الآن أصبحت أقل من المخاطر التي كانت موجودة في الربيع الماضي عندما كان تهديد أسلحة الدمار الشامل أكثر قربا وخطورة، ولم يكن هناك مفر سوى شن الحرب·
وفي الوقت الذي تحاول فيه الولايات المتحدة في الوقت الراهن كسب معركة السلام وذلك بعد أن كسبت الحرب، فإن معدل الاحتمال للخسائر البشرية أصبح يتقلص تدريجيا· وعلى ذلك فإن الحد الأدنى للخسائر الذي يمكن للشعب الأميركي قبوله في العراق، يمكن أن يكون منخفضا، لا يتجاوز في الإجمالي 500 قتيل·
في الحقيقة، أنه وفي الإطار الذي يمكن فيه اتخاذ الحملات السابقة دليلا ومرشدا نهتدي به، فإنه يمكننا أن نكون على قدر معقول من التأكد من أن وسائل الإعلام سوف تصنع قصة خبريه من حادث إسقاط طائرة (التشينوك) الذي يعتبر علامة فارقة في سجل الخسائر الأميركية في الحرب ضد العراق· ففي الحملات الواسعة النطاق مثل الحملة ضد كوريا وفيتنام، لم تصبح الخسائر الكبيرة أي تلك التي كانت تتراوح ما بين 1000 و 10000 قتيل عنصرا محولا لاتجاهات الرأي العام إلا بعد أن تم توصيل أخبارها إليه عن طريق وسائل الإعلام· أما في الحملات المحدودة النطاق مثل الحملة على لبنان، فإن سقوط 100 قتيل كان يكفي وزيادة· الحملة الحالية تقع في مكان ما بين الحملات الواسعة النطاق، والحرب المحدودة النطاق· لذلك يمكننا أن نقول إن الحد الذي يمكن للرأي العام الأميركي تحمله بالنسبة لعدد الجنود الذين يقتلون في العمليات العسكرية هو 500، علما بأن هذا الرقم يعد رقما معقولا، وخيارا طبيعيا إذا ما قمنا بالتفكير بعمق وأعدنا تقييم المعركة·
وقد بينت استطلاعات الرأي التي تم إجراؤها بواسطة محطة (سي إن إن)، و يو· إس· توداي، ومعهد (جالوب) بعد حادث إسقاط طائرة (تشينوك)، أن نسبة الأميركيين الذين يرفضون طريقة معالجة (بوش) للأمور في العراق قد وصلت إلى 54 في المئة· كما بين آخر استطلاع أجرته شبكة ( إيه· بي· سي نيوز إن 60 في المئة من الشعب الأميركي، يعتقد أن الخسائر معقولة حتى الآن· وأعرب 90 في المئة من العينة التي تم استطلاع آرائها عن قلقهم من أن تجد الولايات المتحدة نفسها وقد تورطت في مهمة حفظ سلام طويلة ومكلفة في العراق)· والشيء البالغ الدلالة، هو أن أكثر من ثلث عدد الأفراد الذ