إذا بقيت الاكتتابات في أسهم الشركات المساهمة العامة الجديدة بهذه الصورة التي نعهدها اليوم فقد تؤدي حقيقةً إلى حدوث كارثة في النظام النقدي والمصرفي تترتب عليها عواقب اقتصادية وخيمة. فلا يعقل أبداً أن تستمر تعاميم المصرف المركزي تنهال على البنوك التجارية، مثل التعميم رقم 22/2005 الذي أصبح رجال البنوك يحفظونه كحفظهم لأسمائهم، لتحذرها من ظاهرة الإفراط في تمويل الاكتتابات الجديدة والتي فاقت في بعض الحالات عشرة أضعاف ما لدى الأفراد (أي صغار المستثمرين) من أرصدة يرغبون في الاكتتاب بها ناهيك عن المؤسسات والشركات، وكبار المستثمرين، والذين وصلت نسبة تمويلهم إلى عشرين ضعفاً لما لديهم من أرصدة يرغبون في الاكتتاب بها، وذلك وفقاً للاحصائيات المنشورة في الصحف اليومية. فهل يعقل يا ترى أن يكتتب شاب عمره لا يتجاوز 22 سنة بمليار درهم؟ ومما يؤسف له أن تلك التمويلات المصرفية تتم مقابل رهن الأسهم ذاتها مما يعني أن البنوك الممولة تدخل في الاستثمار في الأسهم بشكل مباشر وعلى نطاق واسع، وهو ما يشكل خطراً كبيراً ومجازفةً ما بعدها مجازفة، وقد تقود إلى كارثة مصرفية مدمرة للاقتصاد.
والحقيقة أن سياسة المصرف المركزي الائتمانية بحد ذاتها متغيرة بسرعة فيما يخص الاكتتابات الجديدة، أي أنها غير مستقرة. فتارةً يوجه المصرف المركزي البنوك إلى الالتزام بنسبة واحد إلى واحد، أي تمويل المستثمرين بواحد درهم فقط مقابل كل درهم في رصيدهم المُعد للاكتتاب. وتارةً أخرى يرفع المصرف المركزي السقف الائتماني إلى 4 أضعاف فيعلن للبنوك بأنه مسموح لها برفع نسبة التمويل إلى 4 دراهم مقابل كل درهم واحد. وتارةً أخرى يرجع المصرف المركزي ليعلن سياسة ائتمانيةً أكثر تشدداً، وذلك من أجل تخفيض السقف الائتماني المخصص للاكتتابات الجديدة. فإذا كانت البنوك قد قدمت حجم ائتمان للاكتتابات الجديدة وصل إلى 20 ضعفاً مما لدى المكتتبين من أرصدةٍ يرغبون في الاكتتاب بها في نفس الوقت الذي كانت فيه السياسة الائتمانية للمصرف المركزي محددةً عند معدل واحد إلى واحد، فمن الطبيعي جداً أن يتوقع المحللون أن يزداد حجم الائتمان إذا ما زادت نسبة السقف الائتماني الذي يحدده المصرف المركزي عن واحد إلى واحد، إلا إذا حدثت معجزات غير متوقعة من قبل السلطات النقدية، ممثلةً في المصرف المركزي.
والحقيقة أن المشكلة لا تقتصر على حجم الائتمان المصرفي المقدم للاكتتابات الجديدة، بل تتعداه إلى مشاكل أخرى مرتبطةً به مثل: كون حجم الائتمان ذاته يفوق حجم الميزانية المجمعة للقطاع المصرفي بأكمله، ونوعية الضمانات المصرفية المقدمة مقابل تلك الائتمانات المصرفية الخيالية الممنوحة، وهل يسمح المصرف المركزي بهذا النوع من الضمانات الورقية، وبهذا الحجم، والتي قد تؤدي بالقطاع المصرفي إلى كارثة حقيقية بينة في حالة فشل المضاربون الحاصلون على التمويل بالتعاون مع المصارف الممولة في بيع الأسهم المكتتب بها. وهذا احتمال غير مستبعد على الإطلاق، وذلك لأن سوق الأسهم شأنه شأن أي سوق آخر يتحرك وفقاً لآلية العرض والطلب. وهل يسمح المصرف المركزي للبنوك أن تدخل إلى أسواق الأسهم بهذه الصورة الخيالية التي نراها، في الوقت الذي نرى فيه أن الأنظمة المصرفية المحافظة لا تسمح للبنوك التجارية بالدخول إلى أسواق الأسهم بنسبة تتجاوز 10% فقط من إجمالي حجم الائتمان الذي تقدمه، أي لا تتجاوز 8% من الحجم الإجمالي لموجوداتها. ويرجع السبب في ذلك إلى نسبة الخطر العالية في أسواق الأسهم وإلى كون أن البنوك تشتغل بأموال المودعين وليس بأموال المساهمين وأن السلطات النقدية تلزم البنوك بضمان الودائع المصرفية لأصحابها. فلماذا لا يسمح المصرف المركزي بقيام بنوك استثمارية لغرض تمويل الاستثمارات بما في ذلك استثمارات الأسهم ويسمح بقيام بنوك عقارية لتمويل العقارات طالما أن السوق يتطلب ذلك، وذلك بدلاً من الدخول في صراع مستمر مع البنوك التجارية؟!
لقد أعلن المصرف المركزي منذ أيام أنه قرر معاقبة 4 بنوك وطنية خالفت تعليمات الاكتتاب، التي أصدرها المصرف المركزي، وذلك بحرمانها من الفوائد المستحقة على المبالغ المخالفة. في الحقيقة من واقع متابعة الاكتتابات الجديدة وبعمليات حسابيةٍ بسيطة يستطيع المرء أن يستنتج أن عدد البنوك المخالفة في هذه الظاهرة قد يزيد على أربعة بنوك، وأن المبالغ المخالفة قد تتجاوز 228.84 مليار درهم التي تمّ إعلانها بأضعاف. إن حجم الاكتتاب في الشركة الواحدة يفوق في بعض الحالات حجم الناتج المحلي الإجمالي للدولة، ويفوق ميزانيات البنوك المقدمة للتمويل ذاتها مجتمعة، بل إنه قد يفوق الميزانية المجمعة للقطاع المصرفي بأكمله أحياناً. وإذا ما أضفنا إليها حجم التمويلات التي تقدمها البنوك المحلية للاستثمار في الأسهم في دول مجلس التعاون الخليجي، حيث تسمح سياسة المصرف المركزي بذلك، فإن الأرقام سوف تزداد بالطبع. والحقيقة أن ذلك يعتبر ضرباً من الخيال لا تقبله أية أنظمة أو أعراف مصرفية. فلماذا ل