الحفاظ على الجاهزية القتالية يعتبر التحدي الأكبر للدول في الأزمات والكوارث، وتمثل رحلة حاملة الطائرات «تيودور روزفلت» المنكوبة بداء كورونا المستجد، منذ الإعلان عن اكتشاف أول حالة على متنها، وهي في بحر العرب إلى حين رسوها وإخلائها من طاقمها في ديغو غارسيا، تراجيديا سياسية. الحفاظ على الروح المعنوية والقتالية هى أولوية للقيادتين العسكرية والسياسية، وغالباً ما تكون الهدف الأول للخصوم حتى قبل التحام القوى المتصارعة، إلا أن ذلك المعطى يكون مضاعفاً في حالة الكوارث الكبرى مثل جائحة كوفيد-19. لذلك وصف وزير البحرية الأميركية بالوكالة، توماس مودلي، قرار قائد الحاملة روزفلت، الكابتن بريت كروجر، «بالغبي» بعد تسريب رسالة منه للإعلام الأميركي، يعترض فيها على قرار قيادة البحرية رفض طلب الرسو في أقرب ميناء صديق وإخلاء الحاملة من طاقمها قبل تفشي الوباء بشكل كلي. مما يعني خروجها عن الجاهزية القتالية في ظرف استثنائي، وعدم قدرة قيادة البحرية تعويضها بأخرى، فالاشكالية لم تكن في تسريب الرسالة، بل القناة التي مررت تلك الرسالة عبرها للإعلام، بالنسبة للرئيس ترامب المرتاب أصلا من ولاء بعض القيادات في ادارته. فهل كان التسريب نتيجة تواطؤ داخلي أو تحدٍ آخر من ضابط لأوامر الرئيس، وهو القائد العام للقوات المسلحة؟ وهل يُفسر تعيين نائب وزير الدفاع للقوات البرية «جيم ماك فيرسون» وزيراً للبحرية بالوكالة، أن الوزير «أسبر» قد نال المزيد من ثقة الرئيس، أو لكونه مشغولاً بإدارة أزمة الجائحة؟
المحصلة النهائية كانت عودة تسليط الأضواء من جديد على الكفاءة القيادية للبحرية الأميركية نتيجة إخفاقاتها المتكررة، خصوصاً بعد اعتبار الصين الخصم الأول للولايات المتحدة، حسب محددات استراتيجية الدفاع المعتمدة من قبل إدارة الرئيس ترامب في أكتوبر 2018. ورافق أعدادها إقالات لقيادات صف أول في البحرية الأميركية، بالإضافة لقادة سفن سطح (مدمرتين) نتيجة عدم الكفاءة. وذلك ما أكدته التقارير النهائية في حادثي التصادم اللذين اشتركت فيهما مدمرتان من فئة «أليا برووك»، الأولى «يو إس إس فيتزجيرالد» مع حاملة الحاويات الفليبينية «اي سي اكس كريستال» في 17 يونيو 2017، والثانية «يو إس إس جون إس ماكين» مع ناقلة النفط الأيبيرية «الينك إم سي» في 21 أغسطس 2017. تلكم الحادثتان كشفتا عن تدني المعايير التدريبية ومعايير اختيار قادة سفن السطح، وذلك تحديداً ما حذر منه الأدميرال «جوزيف أوكيون» بعد تسلمه مهام قيادة الأسطول السابع في 2015، والذي تم تحميله المسؤولية القيادية وإقالته من منصبه في 2017 نتيجة الحادثتين.
قرار تنحية الكابتن «كروجر» يحمل بصمات الرئيس، أو ربما قد كان الأنسب، من وجهة نظر القيادات السياسية في البحرية، لإثبات جدية الرئيس في التعامل مع المعترضين على تقديراته للأمور. ما لم يؤخذ في الحسبان هو موقف بحارة الحاملة روزفلت من قرار تنحية الكابتن كروجر، مما اضطر الوزير مودلي تقديم استقالته لاحقاً، لاحتواء الأزمة. عدم التصالح مع الإعلام هي سمة من سمات رئاسة ترامب، إلا أن استخدام فيلم (العصيان على متن السفينة كين The Caine Mutiny) يعد مقاربة غير موفقة سياسياً، مع الاعتذار لروح الأسطورة همفري بوغارت.
ذكرتني تغريده للصديق د. ظافر العجمي تزامنت وكتابة هذا المقال، حيث أطلق اسم «التايتانك» على رحلة «روزفلت» المكروبة بالكورونا، والتي أثارت عدة أسئلة في نفس الوقت. حيث لم تشهد المؤسسة العسكرية الأميركية حالة من الاستنزاف لقيادات فذة، كما حصل منذ غزو العراق في 2003 إلى يومنا هذا. ولو عدنا بالتاريخ لخلافات الرئيس روزفلت مع الجنرال ماك آرثر، أو خلافات الجنرال آيزنهاور مع الجنرال باتون، فإننا سنكتشف حالة أخرى من الاحتمال المرن بين القيادة السياسية والعسكرية، وحتى العسكرية العسكرية. إلا أن ذلك يبدو منعدماً في الثقافة الإدارية للدولة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. لذلك، تم إقحام المؤسسة العسكرية في مغامرات سياسية عبثية، كان أكبرها غزو العراق. وربما سيذكر التاريخ السياسي لمنطقة الشرق الأوسط اعتراض المؤسسة العسكرية الأميركية على قرار مهادنة إيران وتسليمها العراق، لما لذلك من إضرار بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة.
التايتانك، أو العصيان على متن السفينة «كين»، هو إطار لحالة سياسية غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك هو حال التخندق الحزبي. فهل سبب ذلك التفريط في معايير القيادة السياسية جاء نتيجة للإفراط في الاتكال على المال السياسي؟ ربما قد تنجح الجائحة في إحداث نوع من أنواع الغربلة المعيارية في فلسفة إدارة الدولة في الولايات المتحدة. وبالعودة للتايتانك، فإنها لم تغرق نتيجة اصطدامها بجبل الجليد، بل نتيجة سوء التصميم والثقة المفرطة لقبطانها بالسفينة التي اعتبرت جبارة بمعايير ذلك الزمان.
*كاتب بحريني