بينما أكتب هذا المقال، حول تطوير التعليم وكونه مفتاحاً للتقدم، كانت الأنباء حول انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) تملأ مختلف وسائل الإعلام، لتسود حالة من الهلع والخوف دولاً عظمى وكبيرة، وأخرى صغيرة، رأينا شعوبها تقع فريسة للفيروس، وتتخوف من عدم وجود علاج له، وتتكالب للحصول على الغذاء، في وقت تعاملت دولة الإمارات العربية المتحدة مع الأزمة بعقلانية شديدة، وسبقت الكثير من الدول الأخرى في التصدّي للوباء، وجاءت كلمات سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، حول هذه الأزمة، لتؤكد أننا، ولله الحمد، نحظى بقيادة رشيدة، لا تتوانى أبداً عن اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات لحماية وطننا الغالي ومَن يعيشون على أرضه من مواطنين ومقيمين، حيث أكد سموه أن الأزمة ستمضي، وسنكون أكثر قوةً وصلابةً برغم التحديات الكثيرة التي نواجهها، وطمأن سموه الجميع إلى أن الدولة قادرة على تأمين الدواء والغذاء إلى ما لانهاية.
أولاً: أهمية التعليم
بدايةً لا يوجد اختلاف على أهمية التعليم ودوره في تطور الأمم ونهوضها، فما من أمة تقدمت أو علا شأنها، أو دولة تطورت، أو تعززت مكانتها، إلا وكان التعليم أساساً في ذلك، لذا لا عجب أن يكون التعليم هو مقياس تقدم الأمم وتحضُّرها. كما أن التعليم يُعَدُّ عنصراً مهماً من عناصر تحقيق التغيير، الذي يعيش العالم الآن اندفاعاً قوياً نحوه في كل شيء، بدءاً من السياسة والاقتصاد والنقل، مروراً بالطب والتقنية والفكر، وانتهاءً بالاتصال والمناخ، وهو ما أفردت له فصلاً كاملاً في كتابي الجديد، المنتظر صدوره قريباً بعنوان «التغيير.. الاستجابة أو الفناء»، حيث إن التعليم هو المدخل الحقيقي، الذي يجب أن تتبعه دولة الإمارات العربية المتحدة، والدول النامية، للانخراط الواثق في التغيير، سواء في الحاضر أو المستقبل.
ولكن التعليم نفسه يُعَدُّ عملية مستمرة، ويحتاج دائماً إلى التطوير، ومواكبة التطورات العالمية التي تحدث في هذا المجال، وذلك لأن التطوير المستمر للتعليم هو بالفعل مفتاح التقدم، وهو ما سوف نناقشه في العناصر الآتية:
ثانياً: اهتمام الإمارات بالتعليم
يحظى التعليم في دولة الإمارات العربية المتحدة بأهمية كبيرة، ولطالما كان أولوية منذ قيام دولة الاتحاد على يد المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، انطلاقاً من إيمانه، رحمه الله، بدور التعليم الأساسي في الوصول إلى ما تسعى الدولة إلى تحقيقه مستقبلاً. وقد حقق التعليم قفزات مهمة خلال عهد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، حيث حرص على مواكبة التطور العلمي الجاري آنذاك، واستقطب الخبراء من المنطقة والعالم للنهوض بهذا القطاع.
وقد سارت القيادة الرشيدة، وعلى رأسها سيدي صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، على النهج نفسه، وتوسعت في هذا القطاع، حتى أصبح قاطرة التطور الذي تشهده الدولة، وخاصة مع تبني أفضل النظم العالمية، سواء فيما يتعلق بالتعليم المدرسي أو الجامعي. كما حرصت دولة الإمارات العربية المتحدة على إقامة المؤسسات التعليمية، التي تركز على البحث العلمي، لأهميته في مواصلة مسيرة التنمية المستدامة التي تضمن تحقيق أهداف رؤية الدولة في التقدم والازدهار. ومع كل ذلك، ولأن التعليم يتطور بشكل سريع، فإن تطوير هذا القطاع يُعَدُّ أمراً حيوياً، وعملية مستمرة يجب ألا تتوقف، فعدم الالتفات إلى تطوير هذا القطاع، خاصة في الوقت المناسب، وبما تتطلَّبه كل مرحلة، يعني بكل بساطة توقف عملية التنمية أو تأخرها، ومن هنا يصبح من الضروري، بل المحوري، مواصلة تطوير التعليم.
ثالثاً: التعليم والاستعداد للخمسين
يكتسب موضوع التطوير المستمر للتعليم أهمية وزخماً قوياً، ولاسيما ودولة الإمارات العربية المتحدة تعيش عام «الاستعداد للخمسين»، الذي سيشهد انطلاق أكبر استراتيجية وطنية استعداداً للخمسين عاماً المقبلة، حيث تسعى الدولة إلى أن تكون الأفضل عالمياً في مختلف المجالات. ولا شك أن تحقيق هذه الرؤية لن يكون بالشعارات، ولا بالأمنيات، بل بالاجتهاد والعمل، ما يعني الحاجة إلى تبني سياسات فعَّالة، وقد خَطَت الدولة بالفعل خطوات مشهودة، وقطعت أشواطاً مهمَّة على طريق الانتقال بقطاع التعليم إلى المستويات العالمية، ومن أبرز ما يحضرني في هذا الصدد استراتيجية التعليم 2010-2020، التي طورتها وزارة التربية والتعليم، وجعلت الطالب محوراً لها، وركزت خلالها على جودة الأداء التعليمي والتربوي في المدارس، حيث تضمَّنت الاستراتيجية 50 مبادرة، منها إعادة هيكلة التعليم الثانوي، والارتقاء بالمنهج التعليمي، ليتلاءم مع متطلبات التعليم العالي في الدولة وخارجها وسوق العمل، وتطوير نظام اختيار الهيئات التعليمية، وتحقيق التوازن بين مكونات المعرفة والمادة في العلوم والرياضيات واللغة الإنجليزية.
وقد حققت سياسات تطوير التعليم، التي اتبعتها دولة الإمارات العربية المتحدة، إنجازات بارزة في هذا المجال، ويوجد الكثير من المؤشرات الموضوعية إلى ذلك، ولعل من أهمها المراتب المتقدمة التي تحتلها الدولة في جودة التعليم، وفقاً لمؤشرات دولية مختلفة، ثم تشجيعها الابتكار، واقتحامها مجالات كانت، حتى وقت قريب جداً، حكراً على دول محدودة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، قطاع الفضاء، الذي تعول عليه الدولة كثيراً بصفته أحد أبرز القطاعات التي تعبر بالدولة إلى التنمية والمستقبل المستدام.
رابعاً: التعليم وعصر ما بعد النفط
يتزايد اهتمام الدولة بتطوير التعليم، في ظل التطورات والمعطيات التي يفرضها الواقع الخاص بالموارد الطبيعية المتوافرة، وذلك في إطار رؤيتها لتنويع الاقتصاد الوطني، وتقليل الاعتماد على النفط، الذي بدأ يفقد تدريجياً أهميته كسلعة استراتيجية، لأسباب كثيرة ليس هنا مجالها.
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى ما قاله سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، في القمة الحكومية الثالثة، التي عُقدت في فبراير عام 2015: «إننا اليوم نفكر ونخطط لخمسين سنة مقبلة، ولمصلحة الأجيال، عبر بناء اقتصاد متنوع ومتين ومستدام، لا يعتمد على الموارد التقليدية، ويفتح آفاقاً واعدة تسهم في تعزيز مقومات الدولة وقدراتها. ورهاننا الحقيقي في الفترة المقبلة هو الاستثمار في التعليم. نحن نعيش فترة لدينا فيها خير، ويجب أن نستثمر كل إمكانياتنا في التعليم، لأنه سيأتي وقت بعد خمسين سنة ونحن نحمل آخر برميل نفط للتصدير، وسيأتي السؤال: هل سنحزن وقتها؟ إذا كان الاستثمار اليوم في مواردنا البشرية صحيحاً، فأنا أراهن أننا سنحتفل».
هذه الكلمات، التي دشنت لمرحلة جديدة من التفكير بشكل جدي في مرحلة ما بعد النفط، سلَّطت الضوء بشكل ساطع، ليس فقط على أهمية التعليم ودوره المحوري في الاستعداد لتلك المرحلة التي ستأتي يوماً ما، ونتخلى فيها عن النفط، وربما موارد طبيعية أخرى، ولكن كذلك على ضرورة النهوض به، وتطويره باستمرار، ومواكبة التطورات الجارية في العالم، وخاصة المتعلقة بالثورة الصناعية الرابعة.
وهنا يمكن الإشارة إلى ما يؤكده خبراء وباحثون من أن ثمَّة تحولاً في مفهوم الثروة من الجانب المادي إلى الجانب المعرفي، لأن المعرفة أصبحت هي الثروة في ظل الاقتصاد المبني عليها، وتشير دراسات إلى أن التعليم هو الأكثر إسهاماً في تكوين الدخل القومي للدول مقارنةً بعناصر العملية الإنتاجية الأخرى، مثل رأس المال والعمل وغيرهما، وأن النمو الاقتصادي بات مرتبطاً بالتقدم التقني، الذي أساسه التعليم، وليس بتراكم رأس المال.
خامساً: التعليم والثورة الصناعية الرابعة
يشهد قطاع التعليم تطورات مهمة، وربما غير مسبوقة على مستوى العالم، خاصة مع ظهور تحديات جديدة ربما يُحدث بعضها ثورة حقيقية في هذا القطاع، ليس من حيث طبيعته، ولا العناصر الفاعلة فيه فقط، وإنما كذلك من حيث تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجالاته كافة، التي قد تغير كلياً وجهة النظر التقليدية إلى التعليم، حيث يتزايد الاهتمام بقضية التعليم في ظل التحولات المتسارعة وغير المسبوقة، التي أفرزتها الثورة الصناعية الرابعة وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، التي تثير بدورها الكثير من التساؤلات حول مستقبل منظومة التعليم وعلاقتها بوظائف المستقبل، وخاصة في ظل الدراسات التي تتوقع أن تحل الروبوتات والأجهزة الذكية مكان الإنسان في الكثير من مجالات الحياة والوظائف في السنوات المقبلة.
وتؤكد المؤسسات الدولية المتخصصة أن وظائف المستقبل ستختلف تماماً عن وظائف اليوم، وأن التعليم، وليس غيره، هو الطريق الأساسي لإعداد البشر لهذه الوظائف. وقد طرحت تقارير دولية متخصصة كثيراً من المهارات المطلوبة لوظيفة المستقبل في القرن الحادي والعشرين، ولا بد لمؤسسات التعليم من تعزيزها لدى الطلبة، وإلا فسيجدون أنفسهم بلا وظائف في المستقبل، فوظائف المستقبل باتت تعتمد على المعارف والمهارات الفنية والتقنية والحديثة، وكلما كانت منظومة التعليم في أي دولة قادرة على إنتاج هذه المهارات والمعارف، فإنها ستتمكن من تعزيز تنافسيتها في المؤشرات العالمية.
سادساً: التعليم والمستجدات الطارئة
ثمَّة أمور مستجدة قد لا تقع دائماً في إطار التوقعات، وهي تحدث فجأة ومن دون مقدمات، لكن تداعياتها قد تكون كارثية. وبالقدر الذي قد تمثل فيه هذه المستجدات فرصاً جديدة، فإنها تضع التعليم أمام اختبار حقيقي لمدى قدرة النظم التعليمية القائمة على الاستجابة للأحداث غير المتوقعة أو الطارئة، كظهور فيروس يهدد البشرية، على سبيل المثال، فإذا لم يكن العلم مواكباً لأي تحديات وتغيرات متوقعة، فلن يكون من السهل مواجهة مثل هذا الخطر قبل أن يكون قد حصد أرواح الآلاف، وربما الملايين، ووضع البشرية أمام تحدّ وجودي، وهذا بالطبع ثمن العولمة، تماماً كما هي الحال بالنسبة إلى فيروس كورونا المستجد، المعروف علمياً باسم «كوفيد-19»، حيث فرض انتشاره، والخوف من تفشيه، تحديات على العلم نفسه، ودفع بنظام التعليم عن بعد إلى الأمام بقوة. وبرغم أن هذا النظام ليس بجديد، ومتَّبع منذ عقود، وأخذ ينتشر كثيراً في السنوات الأخيرة، فإن الكثير من الدول، بل العالم كله، قد يجد نفسه في يوم من الأيام أمام هذا الخيار فقط، ولفترة طويلة، فهل نحن مستعدون لذلك؟
الأمر هنا لا يتعلق بالتقنيات، أو توافر الإمكانيات فقط، إنما بالمنظومة التعليمية برمتها. وبعيداً عن موضوع الإيجابيات والسلبيات، الذي سوف يُثار هنا، فإن هذا النظام، لكي يحقق الأهداف التعليمية على أفضل وجه، لا بدَّ، بالإضافة إلى توفير الإمكانيات التقنية له، من أن يتدرَّب عليه العاملون كافة في القطاع، من معلمين وطلبة وأولياء أمور، ليس من خلال دورات تقليدية فقط، وإنما بأدوات مبتكرة ووسائل فاعلة تضمن أن يكون التعليم عن بعد بديلاً حقيقياً للتعليم التقليدي، بحيث يمكن أن يطبَّق هذا النظام في الأوقات الطبيعية، وليس في حالات الطوارئ والأزمات فقط.
سابعاً: محاور التطوير المستمر للتعليم
بما أن التطوير المستمر أمر أساسي لتحقيق التقدم وضمان مستقبل أفضل، وفقاً لرؤى الدولة، فهناك محاور أساسية تتطلب تطويراً مستمراً، وأهمها:
أولاً:    المناهج، وخاصة مع التطور المتسارع في التقنيات والعلوم والنظريات التي تحكمها، فكل يوم هناك جديد حول العالم في مختلف فروع المعرفة، ما يتطلَّب تحديثاً مستمراً في محتوى المقررات الدراسية، بحيث تتضمَّن آخر ما توصلت إليه العلوم، على أن يكون التحديث دورياً أو سنوياً.
ثانياً: الوسائل والتقنيات التعليمية، حيث لم تعُد الأساليب المتبعة أو التقليدية فعَّالة في كثير من الأحيان، لذلك لا بد من تحديث الوسائل والتقنيات، من خلال توظيف التكنولوجيا، وضرورة الأخذ بالتقنيات الحديثة في طرق التدريس والتعلُّم.
ثالثاً: التدريب المستمر للمعلم، فلا شك أن المعلم، وفقاً للكثير من النظريات، يعد أهم عنصر في العملية التعليمية، ولذلك لا يكفي أن يكون مؤهلاً أكاديمياً فقط، من خلال حمل الشهادات، وإنما يجب أن يكون مواكباً المستجدات في مجاله، وأساليب التربية والتعليم المعاصرة والمستجدة أيضاً، وهذا يكون بالطبع من خلال التدريب المستمر.
رابعاً: الاهتمام بمتطلبات سوق العمل، حتى لو تطلَّب ذلك إلغاء تخصصات إذا لم تكن مرتبطة به، والتركيز على التخصصات المطلوبة، وخاصة التطبيقية.
خامساً: إعطاء الأولوية للعلوم الحديثة، وخاصة في مجال التقنية واختراعاتها. وبالنظر إلى التوقعات، التي تشير إلى أن وظائف المستقبل سوف تبحث عن أصحاب «المهارات»، فإن أنظمة تعليمنا يجب أن تركز على تعزيز المهارات من خلال التعليم المهني والحِرفي بشكل خاص.
إذاً التطوير المستمر للتعليم، ومواكبة آخر المستجدات العالمية في هذا المجال، أمران محوريَّان وحيويَّان، وخاصة للدول التي تسعى إلى المحافظة على مستوى تقدُّمها، والارتقاء بحياة شعوبها، وضمان رفاهية مستدامة لرعاياها، كما هي حال دولة الإمارات العربية المتحدة.
*كاتب إماراتي