ما أغرب هذا «الكورونا»، يفرض علينا التباعد والتقارب في آن.
يفترق الجسد عن أخيه، ولا يرى الوجه وجهاً آخر طالما أَلِفه في الأيام التي راحت، قد يكون لحبيب أو صديق أو صاحب أو زميل، لكنه يقول للناس من كل دين وعرق ولغة ومكان: لا سبيل سوى التعاون، فبقاء بقعة واحدة على سطح الأرض تعاني، يعني أن كل الكوكب سيظل تحت احتلال هذا الشيء، الذي يقولون عنه إنه ليس كائناً حياً، إنما مجرد حمض نووي لا يتكاثر من تلقاء نفسه.
كأن الفيروس يتكلم ونسمعه، أو أن هناك من يتحدث باسمه، طبيب أو مسؤول عن الصحة في كل بلد وقع تحت هجومه، أو إعلامي يصرخ في الناس، وهو يتوهم أنه محصن من الغزو، أو واعظ دين يتصيد فرصة كي يقول: إنه غضب الله من عالم غارق في الفجور،
فيجد من يرد عليه دون تردد: أمثالك الذين يملأون الآن الدنيا حديثاً عن نهاية العالم، ويعتقدون أنهم متحدثون باسم الله، لم يقرأوا شيئاً عن تاريخ الأوبئة، وكيف كان تجار الدين في كل مرة، يرددون هذا الكلام، لكن الناس انتصروا بهدية الله لهم، وهي العقل المؤمن.
ويستمر الجدل العقيم فيتسع التباعد، وينسى كثيرون جنازات تمر مقفرة، لأنها تخلو من أحبة كُثر كانوا ينتظرون وداعهم، ويتغافلون عن هذا العجز الفاضح الذي يصيب الكل في مواجهة ما لا يرونه، وهو يمر في الاتجاه المضاد لمرور الجنائز راكباً بعض الأكف والأنوف والوجوه، وما يعتلي روؤساً حائرة لا يشغلها ليل نهار سوى التفكير فيه.
في الحجر الصحي يفتح كل منا نافذته، ليرى جيرانه في النوافذ المقابلة، ويسمع أصواتهم في الشرفات المجاورة، فيطئمن إلى أنه ليس وحده الذي يكابد أغلال العزلة في هذا العالم.
يستأنس بالذين لم يفكر يوماً في أن يسأل عنهم، وقد يمر بهم في الشوارع التي تتوسط بنايات متصافحة دون أن يلقي عليهم أي تحية، أو حتى يُعطيهم حقهم في الابتسام.
يعرف الآن كم أن وجودهم يحي وجوده، وأن بينه وبينهم أيام أُخر لا بد أن تعاش، بطريقة أخرى غير التي جرت، وقت أن كان كل منهم لديهم شعور زائف بالاكتفاء.
حين ينظر أي منا من النافذة يرى جيرانه يدلفون إلى البناية، بعد خروج اضطراري لإحضار غذاء أو دواء، وهم يضعون الكمامات على أنوفهم، والقفازات الخفيفة على أيديهم، ويعرف أن بعضهم يفتح باب المصعد بكوعه، ويضغط أزرته بظهر السبابة، فيقول في نفسه: ليسوا أنانيين على أي حال، ففي حرصهم على أنفسهم حرص على جيرانهم.
يرى كل منا البناية التي يقطنها، بل الحي، والمدينة والدولة، ولن تكون هناك مبالغة حين نقول إنه يرى العالم بأسره قارباً صغيراً، يشرخ مجدافاه الضعيفان أمواجاً عاتية، بحثاً عن شاطئ، وعلينا إن لم يكن بوسعنا المشاركة في التجديف المتلاحق، فعلى الأقل أن نجلس ونتصرف في حذر وتحسب، حتى لا نغرق جميعاً.
في سنوات سابقة، كانت أوبئة تضرب مناطق بعينها، فنكتفي بقراءة سريعة لأخبار عن أعداد المصابين والموتى، ومن له قلب سليم كان يبدي تعاطفاً وشفقة، أو يدعو إلى مساعدة وغوث، لكن أياً منا لم يعش مثلما عاشوا.
كانت أيدينا في الماء وأيديهم في النار.
اليوم، امتدت ألسنة اللهب إلى كل مكان، وصار بوسعها أن تحرق أي شخص.
تعلمنا جميعاً في عزلتنا الواجبة، أن كثيراً من الأحقاد والصور المجروحة المشوهة التي نتناقلها عن بعضنا البعض، ونستمتع بها، أو تدخل على نفوسنا مرحاً زائفاً، ما هي إلا جرائم، آن لها أن تغرب من حياتنا إلى الأبد، إن كنا نتعظ حقاً مما يجري.

*روائي ومفكر مصري.