الأحداث إمّا أن تكون كاشفة، أو تكون ناشئة، وفيروس كورونا كشف قدرة الأنظمة الصحية للدول التي ضعُفت أمام انتشاره، كما أنه سيكون منشئاً لما سينجم عنه من تداعيات تترتب عليها معطيات جديدة. بعض هذه الأنظمة لم تقوَ على مواجهة وباء كورونا في أيامه الأولى، وسرعان ما انتقل لمدن ومساحات أخرى وعبر الحدود، ما زاد من حالة الارتباك، وألجأ لتدخل الجيش، بغية إلزام الناس بالتعليمات الصحية، وأولها البقاء في بيوتهم، حتى وصل الأمر إلى تعليق الصلاة في المساجد والكنائس وباقي دور العبادة في مختلف بلدان العالم.
ولم تمر البشرية بمثل هذه الحالة من الارتباك قبل الآن، والتي أحدثت خللاً في نفسية الشعوب، لاسيما في ظل موجات سيبرانية من التواصل الاجتماعي أدت لما يشبه الهلع والرهاب، وقسّمت الناس بين موغل في التحذير ومفْرط في السخرية! هذا بينما تردهم تحليلات وتوقعات سياسية مضللة، إضافةً إلى تأملات دينية لأنصاف متعلمين اكتشفوا لتوهم أن سور وآيات قرآنية تعرضت لفيروس كورونا، وهم يلوون أعناقها لكي تطابق ما يريدون قوله! ورحم الله الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي حذّر من هذه المرائي ومن إنزال الآيات في غير سياقاتها التي نزلت بسببها. وفي هذه الجلبة والفوضى التي أحدثها فيروس كورونا، منذ بداية انتشاره في ديسمبر 2019 بمدينة «ووهان» الصينية، وقف العالم بعض الوقت وهو يترقب ما ستؤول إليه الأمور في الصين، ولم تحسب أكثر الدول حساباً لعبور الفيروس حدودَها، مما أربك الكثير منها، خاصة تلك الدول التي لا تملك الوسائل الصحية والوقائية اللازمة.
نعتقد أنه من المبكر الحديث عن انتصار على فيروس كورونا، فالأمر يتطلب انتظاراً حتى تتضح الرؤية، لاسيما أن الأمر يتعلق بـ«فيروسات حيوانية المنشأ» قاتلة للإنسان، كما يقول المختصون، في إطار تفاعل ثلاثي: «الفيروس، الإنسان، والبيئة»، ما أن ينتصر فيه الفيروس حتى يصير وباءً، وإذا توازنوا ينعزل الفيروس. ومردّ ذلك لعبث الإنسان وتدخلاته غير الرشيدة التي أحدثت ثقب الأوزون. والشيء نفسه حصل في اللعب بالتركيبات البيولوجية لبعض الفيروسات، مما أوجد طفرات منها يمكن أن تصبح خارج حدود السيطرة!
وكما يقال، «من رحم المحنة تولد المنحة»، ووسط ما اعترى البشرية وسط حالة الهلع والخوف، بدأ الناس يتحسسون وجدانهم، وبدأت تعتمل في قلوبهم الحاجة إلى الله، الواقي المؤمن الحافظ الحفيظ. وكما يقول ابن خلدون: «الناس في السكينة سواء، فإذا جاءت المحن تباينوا». وتظهر فرصة «الصيد في العجاج» مع اختلال النظام الدولي المهلهل الذي بان ضعفه وأصبح لا يُركن إليه في العلاقات الدولية. وهل لنا أن نتصور انفعال الناس، غربيين وشرقيين، ومشاعرهم خلال هذه الأزمة، باستماعهم لصوت الأذان وتلاوة القرآن؟ بغض النظر عن الحيثيات، فالإنسان بطبعه عندما يجزع، يبادر إلى حضن يضمه أو قوة روحية يتحصن بها، وهذا لا تحققه المؤسسات بدورها المجرد. واعتماداً على «وثيقة الأخوة الإنسانية» التي تم إطلاقها في أبوظبي، في فبراير 2019، بمشاركة شيخ الأزهر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، وقداسة البابا فرانسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، والتي تم إيداعها في الأمم المتحدة، يمكن للإمارات والأزهر والكنيسة الكاثوليكية تفعيل هذه الوثيقة لتبنِّيها كمنظومة قيمية للنظام العالمي الجديد المرتقب قيامه في مرحلة ما بعد كورونا. فبهذه الوثيقة الإنسانية، ومن خلال التعاون مع المجتمع الدولي، يمكن إضفاء مسحة روحية وإنسانية على النظام الدولي، بعد تجربة كورونا المؤلمة، وما عانته الإنسانية من شراستها، ومن فشل المنظومات القائمة في مساعدة دول تحتاج المساعدة في التصدي للوباء الكوروني.

*سفير سابق