بات‎ من غير الممكن على أي صاحب قلم في الآونة الأخيرة أن يلفته شيء آخر غير هذا المسلسل الجنوني لفيروس لا يُرى بالعين المجردة، أخضع حتى الساعة نحو 2.5 مليار نسمة حول قارات الأرض الست للحجر الإجباري وراء جدران المنازل. على‎ أن الواقع يبين لنا أن كورونا أجبر كل صاحب رأي على عمل جردة لأفكاره إن جاز التعبير، عن الماضي والحاضر والمستقبل ، وعن أحوال العالم وتطوراته، ومآلاته في العقود القادمة. من‎ مشارق الأرض إلى مغاربها يجمع المراقبون أن عالم ما بعد كورونا لن يضحى أبداً كما كان من قبله، فهناك الكثير الذي تغير، والذي سيتغير عما قريب جداً.
هل‎ أدى فيروس «كورونا» إلى استيقاظ العالم من غفلة عميقة تناسى فيها الجميع إنسانيتهم، وتبدلت أوضاعهم وتغيرت طباعهم؟
أبسط‎ مثال يؤكد أن هذا هو ما جادت به الأقدار بالفعل يتمثل، في اكتشاف البشرية برمتها أن ترسانات الأسلحة التقليدية والنووية، وغيرها من أدوات الموت، تقدر على الدمار والفناء، ويمكنها إهلاك الزرع والضرع إنْ أراد القائمون عليها، أما الشفاء والنجاة، فهذا لم توفره الصواريخ العابرة، ولا الطائرات الأسرع من الصوت.
أمام‎ «كورونا» اكتشفت البشرية أنها في حاجة على سبيل المثال إلى صندوق دولي لدعم علاج مرض «كورونا»، تلك الفكرة التي خرجت من رحم الأمم المتحدة الأيام القليلة الماضية، بعد أن باتت الدول غير قادرة كل منها بمفردها على ابتكار دواء ناجع يستنقذ العالم من براثن الفيروس المهلك. في‎ مواجهة الألم المتصاعد اكتشفت البشرية أن قارب النجاة، إما أن يمضي بالجميع، أو يهلك كذلك بالجميع. وهنا يتحتم على القائمين على شؤون الاقتصاد العالمي مراجعة أوراقهم بدقة، فما بعد «كورونا» سيختلف جذرياً من حيث النظرة إلى الكرامة الإنسانية التي أهدرتها العولمة المتوحشة.
عربيا‎ً، اكتشف الجميع أن وقتاً طويلاً قد ضاع من غير تنسيق لمثل هذه اللحظة المثيرة والخطيرة، على الأقل على مستوى البحث العلمي، تلك الفريضة الغائبة التي كان يمكن أن تجير لها نسب عالية من الدخل القومي لكل دولة، نسبة تصنع جداراً عالياً من الأمن والأمان، والاستقرار النفسي من غير خوف من فيروس مجهول طارئ يطرق أبوابنا بيد مضرجة بالموت ذات فجأة.
اكتشفت‎ الإنسانية أنها ضعيفة، وأن غرورها زوال، وإن كافة مشروعات الاتحادات السياسية والكيانات الأممية وهم غير حقيقي، فقد أغلق كل شعب أبوابه على نفسه، وكأنه زمن الطوفان، من غير أي ملمح أو ملمس للتضامن الإنساني.
علّمت‎ «كورونا» الإنسانية أن الحروب ليست الحل، ولهذا ارتفعت الأصوات تطالب بـ«هدنة عالمية»، من جهة ، و«حرب عالمية شاملة»، على «كورونا»، من جهة ثانية. بعض‎ ملامح «كورونا» أكدت أان العالم لا يزال يعيش طفولة عقلانية، سيما بعد حالة الهوس الديني التي عاشتها البشرية مؤخراً .
«كورونا»‎ لحظة تضامن إنساني لا ينبغي تفويتها.
*كاتب مصري