بدأ المفكرون في العالم يطرحون أسئلة فلسفية واقتصادية واجتماعية في دراسات مستقبلية عن العالم ما بعد الكورونا، ويجزم كثير منهم أن هذا فيروس سيغير العالم حتماً، وأنه حدث مفصلي سيجبر المجتمعات على إعادة النظر في كل النظم السائدة، وتقييم القدرات الرسمية والشعبية على الاستجابة لظروف مشابهة، وقبل أن نخوض في رؤى المفكرين، سنلحظ التفسيرات البسيطة للحدث والمواقف العامة منه، فالمؤمنون من كل دين وعقيدة رأوا أن هذا فيروس على صغر حجمه وكبر فعله، «دليل على غضب الله وعقاب منه للبشر» الذين «أسرفوا في الفساد»، ورأى بعضهم أن إغلاق المساجد والكنائس ودور العبادة في العالم كله، هو «طرد للبشرية من بيوت الله»، و«الله غني عن العالمين»، ورأى بعضهم أن هذا البلاء الكوني عقاب على صمت العالم عما يحدث من هدر للدماء، وقال الحاخام اليهودي «ديفيد ويكسلمان»: إن ما يصيب البشرية ناجم عن معاصيها ونسيانها لخالقها وتجاهل أوامره، وقال: إن المظالم التي تعرض لها اللاجئون السوريون تحولت إلى لعنة على العالم، تجسدت في «كورونا».
وأما غير المؤمنين، فهم ينعون التخلف العلمي الذي كشفه فيروس، ويرون أن ما تباهت به الدول حول إنجازاتها ظهر أقل بكثير مما كنا نظن، وها هي دول كبرى تعجز عن توفير المصحات والأدوات الصحية بل والأَسرّة لاستقبال ضحايا فيروس والمطلوب حجرهم صحياً، بل إن دولاً شرقية بدت أفضل حالاً وأكثر تنظيماً وأوسع قدرة واستجابة من دول أوروبية أعلنت عجزها.
ويقول المشككون: إنه فيروس مصنوع مفتعل، ووصل الأمر في الشك إلى إعلانه في تصريحات تنابذتها دول كبرى، واختلطت الأخبار الكاذبة بالصحيحة في «سوشيال ميديا»، ونبش الصحفيون أفلاماً وكتباً ومسلسلات تحدثت من سنوات سابقة عن ظهور كورونا عام 2020، وتحدثوا عن نبوءات حول خطط لتدمير العالم، وقال بعضهم إنها حرب جرثومية، بينما أكد العلماء أن الفيروس موجود سابقاً ولكنه طور نفسه، وامتلك قدرات على التكاثر والتكيف ولايوجد له لقاح، لكنه ضعيف أمام الأصحاء، ومن يملكون مناعة قوية.
وتساءل مفكرون كبار عن شكل المتغيرات التي سيحدثها كورونا، أحدهم قال (روبن نيبلت، مدير مركز تشاثم هاوس للأبحاث): إن كورونا سيكون سبباً في نهاية العولمة، وسيدعو الدول إلى عزلة اقتصادية، وإلى التخلي عن خطوط الإمداد البعيدة، وسيكبر الاعتماد على الاكتفاء الذاتي، وقال جون إكينبري، أستاذ السياسة بجامعة برينستون: (إن الوباء سيؤدي إلى صعود القومية والسلطوية، حتى بين أكثر الأنظمة ديمقراطية في العالم)، وقال آخر: (إن وباء كورونا سيغير شكل العلاقات السياسية بين الدول وداخلها)، ورأت مجلة «فورين بوليسي» أن جائحة كورونا شأنها شأن أحداث مفصلية في التاريخ، كسقوط جدار برلين، ونشرت توقعات عدد من العلماء لما بعد كورونا، منها (أن المعركة ضد الوباء الحالي سينقشع غبارها عن عالم أقل انفتاحاً وأقل ازدهاراً وحرية )، ومنها (أن كورونا قد تكون القشة التي قصمت ظهر بعير العولمة الاقتصادية)، وكذلك رأى بعضهم أن (الصين باتت أكثر إيماناً بقدرتها على المنافسة في أي مكان من العالم)، وهناك من رأوا (أن واشنطن فشلت في اختبار القيادة، وأن العالم قد بات أسوأ حالاً نتيجة لذلك الفشل).
وقد يكون من أهم الآراء الإيجابية ما قاله «نيكولاس بيرنز»، أستاذ العلوم السياسية، حين أشار إلى «قوة الروح الإنسانية التي تجلت في الأشخاص الذين كافحوا الفيروس، من الأطباء والممرضات وزعماء السياسة وعمال النظافة والتموين وغيرهم، هؤلاء أثبتوا فاعلية الإنسان حين يواجه تحدي البقاء، هذا سيبقي الأمل في أنَّ البشر ما زالوا قادرين وراغبين أيضاً في صون كوكبهم، مهما كانت قسوة الأزمات».
وأعتقد شخصياً، أن يقوى تيار العولمة لأن الكارثة الحاصلة، أكدت أن التواصل الإنساني صار أكبر من أن تحده حدود أو تكتلات إقليمية، وكورونا استنفر كل الطاقات، ونبه العالم إلى ضرورة مزيد من التكاتف لمواجهة تحديات محتملة مشابهة، ولا يمكن أن ينجو كيان أو تكتل بمفرده، وينبغي أن تقل المواجهات والصراعات لصالح التعاون في تقدم البحث العلمي، ولم يعد ممكناً التراجع عن العولمة بسبب تنامي ثورتي الاتصال والمعلوماتية، والسوشيال ميديا العالمية، لكنني أتوقع مزيداً من الانهيار في النظم الدنيا، وفي دول الديكتاتوريات المتبقية في العالم، في حين سيكبر شأن المنظمات الدولية العابرة للحدود، وسيتغير بعد كورونا النظام التعليمي ونظم الاقتصاد، وسيكبر الاهتمام بالاحتياطي العام وبالقطاع الصحي في العالم كله.
ولكوني أعيش في دولة الإمارات، لا بد لي من الإشادة بآليات الاستجابة للتحدي على صعيدين، حكومي وشعبي، لقد سارعت الدولة لاتخاذ كل الاحتياطات اللازمة لمنع تفشي الوباء بشكل جائحة مريعة، وسرعان ما أفادت الدولة من إنجازاتها السابقة في إشادة الحكومة الإلكترونية الذكية، وبدأ التعليم عن بعد، ولم يشعر ملايين السكان من كل جنسيات العالم بأي قلق معيشي أو مادي، خلاف ما حدث في بلدان كبرى في العالم، فكل مستلزمات العيش متوفرة، واستجابة الشعب مواطنين ووافدين للتعليمات تكاد تكون مثالية، وندعو الله أن تنجح جهود العلماء في إيجاد لقاح وعلاج ينقذ البشرية جمعاء.
*وزير الثقافة السوري الأسبق