وأخيراً أعلنت الحكومة التعبئة في لبنان لمواجهة تفشي الفيروس، وإغلاق شامل، منع تجول إلا في حالات الضرورة القصوى. التزمتُ ولازمتُ منزلي، لكن، بعد ساعات، ضاقت بي الأمكنة، ومشاهدة التلفزيونات، والقراءة.
والقراءة في زمن الفقدان مضجرة، لأنها قسرية، تحلّ محل الشارع، والأرصفة، والناس، والأصدقاء.
هل تحلّ القراءة محل العلاقات الاجتماعية المنفصلة والمنتظمة خلف الجدران؟ ربما إلى حدٍّ ما، لكن ليس في كل الحدود، ولأنني أعيش بمفردي خارج الأطر العائلية فعليّ أن أعالج هذه النعمة بأنعم منها، أو هذه اللعنة بألعن منها، فتحتُ الباب ولم أضع لا الكمامة ولا القفاز، ودلفتُ منه، دلف اللصوص، ونزلتُ إلى الشارع الذي كان دائماً المساحة الواسعة المكملة للمنزل. بل هو المنزل أحياناً هو الذي تعرف أرصفته، ومحاله، ومقاهيه وأزقّته وناسه يومياً، بألفة أو بغير ألفة. من بيت أليف، إلى شارع أليف لكن أي شارع، ذلك الذي عرفته في الحروب والعنف والخطر، الشارع المفتوح بلا أسئلة ولا أعباء!
    عرّجتُ من زقاق ضيق إلى رحاب شارع الحمراء. لم يعد ثمة فارق بين زقاق جانبي فارغ وشارع فسيح فارغ، فراغٌ صامتٌ عموماً. فراغٌ مرتعشٌ أو فلنقل الفراغ العدمي: نادراً ما رأيتُ أناساً يمشون، بل أناس في سيارات قليلة... وعلى دراجات نارية، يعبرون أيضاً بلا جلبة، هو شارع الحمراء الضاج، والصاخب بالأصوات والزمامير، خالٍ بلا أصداء، سوى ما يصلك من كلام متباعد غير مفهوم، الملون بالواجهة والألبسة، المزدان بالمقاهي والمطاعم وباعة الجرائد، وبالزحمة صباحاً، وبالزحمة مساءً، بلا أقدام تطرق بلاطه، ولا أوجه متشوقة تعيره، وإذا التقيتُ رجلاً أو امرأة... أو أناساً قلة آخرين، فلا ترى منهم سوى عيونهم، الكمامات تغطي أنوفهم وأفواههم، والقفازات في أكفهم، كأنما حفلة تنكر مجهولة تجري فصولها واحتفالاتها الصامتة أمامك، سلّم عليّ أحد الأشخاص بالإشارة. وعندما تقدمت صوبه تراجع: عُد متراً أو مترين وحياني مرة أخرى، لم يمدّ يده، طلعت بصعوبة من فمه المكموم فلم يكن سوى تصويتٍ يشبه الحشرجة. البسطة الوحيدة في آخر الشارع كانت بسطة الجرائد والمجلات، مفتوحة، عال! وصاحبها صديق منذ عشرات السنين، نعيم، اسمه نعيم، لم يكن مكمماً ولا مقفزاً، مكشوفٌ مثلي، تبادلنا بعض الحديث اشتريت جرائدي، وعدتُ أدراجي، أرصدُ ما أرصد من هذا الخلاء، استقبل ما استقبل من هواء تخشى أن يكون مرّ بذرة كورونا. أو برذاذ منه، الهواء لم يعد هواء نعرفه، صار جزءاً من الغربة على وجوهنا وأنفاسنا... جزءاً من الأمكنة المعطوبة، جزءاً من الأنوف المسدودة، جزءاً من الملابس الغريبة، جزءاً من اللاهواء... كما بات المكانُ شيئاً من اللامكان، بل شيء من الحطام، شيء مما بعد الخراب بل احسستني أمشي بين الأطلال، بين ذكريات مدينة، وهروبها من الزمن... عدتُ إلى المنزل، وكالعادة، فتحتُ التلفزيون... ثم اخترتُ كتاباً لأقرأه... وأنا أشاهدُ من دون أن أرى... وأقرأُ من دون أن أقرأ...
إنها بيروت في زمن الكورونا.
*كاتب لبناني