بيوت الله تعالى، كرَّمها الله عز وجل ورفع مكانتها وطهَّرها، وجعلها مثوى عباده المصلين، فهي قلاع إيمانية، تحقق لقاصديها الخشوع والخضوع والسكينة، هي متنزل الرحمات، ومحلّ الدعوات، والمأوى الدائم للجمع والعبادات.

وما يعيشه العالم اليوم من «جائحة كورونا» وإعلانه وباءً عالمياً، وتوقع انتشاره وتزايده، كما هو واضح في العديد من الدول التي باغتها، وأفادته الجهات الصحية، سواء منها العالمية أو المحلية، وإمكانية انتشاره بمجرد ملامسة أو مصافحة، أو بسبب سعال أو عطاس، كلّ تلك المعطيات أوحت إلى الدول تقَنَّين إجراءات وقائية، واحترازات صحية؛ كان على رأسها الحد من التجمعات والملتقيات البشرية، لأنها لا شك من أهم أسباب انتقال هذا الداء واستشرائه.
ولما كانت المساجد ودور العبادة من الأماكن المعدودة ضمن التجمعات البشرية في مناسبات عدة في اليوم والليلة، فإن خطر انتشار العدوى بسبب الاجتماع في المساجد وارد بل محقق، خاصة أن هيئة أداء الصلاة يحصل فيها التلاصق وتراص الصفوف، وتقارب الأعضاء، ما يُستبعد معه أن لا تحصل فيها العدوى بهذا المرض بين مريض وسليم.
فلهذه الأسباب - وخاصة تلك التقارير الطبية التي تحذر من التجمعات- أصبح إغلاق المساجد مؤقتاً ومنع الاجتماع فيها لأداء الصلوات سواء صلاة الجمعة أو الصلوت الخمس؛ ضرورة تفرضها المصلحة العامة، والقواعد الشرعية والمقاصد المعتبرة، ومنها ما يأتي:
أولاً: مما يستوجب الحكم المتقدم أصل حفظ النفوس الإنسانية الذي يعد من أهم الضروريات الخمس المعتبرة في الأديان كافة، وذلك بتحقيق وجودها ومنع زوالها، وقد دلت على ذلك نصوص عديدة من القرآن الكريم منها قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195] وقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء : 29] والخوف على الأنفس وهلاكها بهذا الوباء، أصبح خطراً قائماً بشهادة الخبراء والأطباء، فيجب سد ذريعة ما يؤدي لهذا الهلاك.
ثانياً: إن هذا الخوف المحقق والمتوقع؛ يعد من الأعذار المعتبرة والرخص المشروعة في صلاة الجماعة، كما ورد في الحديث الصحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمِعَ المنادي فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ اتِّبَاعِهِ، عُذْرٌ»، قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟ ، قَالَ: «خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ ...». وقد فُسر العذر كما في هذه الرواية بالخوف والمرض، وألحق به العلماء صوراً أخرى من مشقة وضرر وغيرهما، وقرروا أن (الجمع والجماعات في سائر الصلوات لا بد منها، إلا لخوف ضرر ظاهر يقاوم ما يفوت من فضيلة الجماعة).
ثالثاً: إن من مقاصد اجتماع الناس في المساجد، ومن الحِكم التي شُرعت لها الجُمع والجماعات وحدة الصف، واجتماع الكلمة، وأداء الشعائر بخضوع وطمانينة، ومع انتشار هذا الوباء تنعدم بعض المقاصد، للخوف القائم من الأمراض، وكثرة الأوهام والشكوك، وأداء الصلوات في البيوت في هذه الحالة أكثر خشوعاً، ومدعاة لحضور للقلب.
رابعاً: من المبادئ الشرعية والأصول العامة التي تدعو لإيقاف الجمع والجماعات مؤقتاً في هذا الظرف، -حتى يمن الله على خلقه بالعافية والمعافاة-؛ ما قرره الفقهاء من وجوب إزالة الضرر ودفعه، سواء كان هذا الضرر واقعاً أو متوقعاً، فالمتوقع هنا كالواقع في وجوب الإزالة، ويدل على ذلك الحديث الذي يعد أصلاً من أصول الدين الإسلامي الحنيف وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار». وغلبة الظن في تقدير الضرر المتوقع كافية في هذا الباب؛ لأنه لا طريق لتحصيل العلم بذلك، كما قرره العلماء.
إن هذه الوجوه المتقدمة وغيرها؛ كفيلة بتقرير تعليق فتح المساجد عن أداء الصلاة فيها، عملاً بالتقارير الطبية، وأخذاً بالإجراءات الاحترازية، فيجب على كل مسلم الانصياع لهذا القرار، وطاعة الحاكم فيه، لا سيّما وقد صدرت عن مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي فتوى تؤسس للتعامل مع هذه النازلة، وتبين ما يحيط بها من التفاصيل فيها كفاية وشفاء لمن طلب الاستزادة من العلم.
وستبقى وظيفة المساجد قائمة بإعلانها الأذان في أوقات الصلوات، إلى أن يرفع الله هذا الظرف عن الخلق، فتعود المساجد إلى حالها لاستقبال قاصديها الراكعين الساجدين، وإلى ذلك الحين بإذن الله، فإن أعظم الأوقات التي ينبغي أن نتوجه فيها إلى الله هو وقت البلايا والمحن، فلنحافظ على صلواتنا في بيوتنا في أوقاتها، ولنتضرع إلى خالقنا أن يرفع ما نزل بالعالم، ولنكثر من أعمال الخير، وندعو لوطننا وحكامنا وشعبنا بالحفظ والصون من جميع الأمراض والأسقام.