عند الأزمات يكثر المتنبئون والخراصون والشامتون أيضًا، وفي الوقت نفسه تتجلى قامات أهل العلم والنُّهى، وبين الفئتين بونٌ شاسع، فالشامت يثير الهلع والإرجاف، بينما أهل العلم يبددون الأوهام ويستخلصون الحلول.
والعالم اليوم من أقصاه إلى أقصاه في أزمته مع (فيروس كورونا) يبتغي العلم ولا يريد الشماتة، ويشرئب إلى العلماء والخبراء في الطب، أن يقدموا دواءً لما حلّ بهم من هذا الوباء الذي جاوز حدود دولهم، وأرعبهم وأزعجهم، وكاد أن لا يَسلم منه شيء.
إن ما يؤسف حقًا في أفياء هذه الظروف العصيبة أن فئة غير قليلة من الناس، نجدها توغل في المزايدات، وتزدري الإنسانية، وتُنعش الكراهية، وتصطاد في الماء الآسن، متجاهلين أن للمرض حرمة، وأن للإنسانية هيبة وإجلالًا واحترامًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟» فليس من الدين الحنيف في شيء، كلام أولئك الذين يتألون على الله تعالى بغير وحي أتاهم بأن هذا الوباء إنذار ونكاية بالآخرين، وأقوال أولئك الذين يعتبرون أن هذا الوباء واعظ وجنديّ من جنود المسلمين، وتخرصات أولئك الذين يستهينون بالعلم، ويدَّعون امتلاك معجزات وعلاجات ووصفات تقضي على هذا الخطر المبين!
إن هذه المنظومة من التكهنات الفادحة، التي تنتشر بين شبابنا، وتفشوا في مجتمعاتنا، وتجد بيننا من يُصدقُها، ويظن جازمًا أنها تَشفي صدور قوم مؤمنين، وتذهب غيظ قلوبهم، لأمر يثير الدهشة والاستغراب، فلم تكن الأمراض ولا الأوبئة ميدانًا خصبًا لإسقاطات الشماتة والازدراء، كيف يكون ذلك وقد رُزء الصحابة بطاعون عمواس حتى أذهب منهم ما يفوق خمسة وعشرين ألفًا ممن (رضي الله عنهم ورضوا عنه)، فلا شماتة في المرض والموت.
إن الإسلام دين القيم والعفو والقول الحسن، دين الرحمة للعالمين، والرفق بالإنسانية، لا يدعو إلى الشماتة والتشفي، ولا إلى المزايدات واحتقار المخالفين، بل يدعو إلى تحكيم العلم (وما يعقلها إلا العالمون) ويشجع أولئك الذين يسعون جاهدين لإنقاذ البشرية، وإيجاد دواء يترقبه العالم أجمع، ما يتأكد معه أن العلم الحياة، ونور يجب إبصاره، وكفّ النظر عن الالتفات إلى الغارقين في الشماتة ممن يُروّجون للإشاعات، ويزيفون الحقائق، ويسيئون للأديان والمجتمعات.
وإذا فِئْنَا قليلا لتاريخنا الحضاري، فإننا نظفر بنماذج مشرقة من الرقي والتوازن، فهذا الإمام الشافعي -رحمه الله- كان يتمنى دراسة الطب، وكان يتأسف على ما ضيع المسلمون من الطب، ويقول: «ضيعوا ثلث العلم» وفي رؤية توازنية يقول: «لا تسكن بلدًا لا يكون فيه عالم ينبئك عن دينك، ولا طبيب ينبئك عن أمر بدنك».
إن النفوس أحوج ما تكون في أوقات المحن والبلايا لكثير من العلم الذي يبعث على الطمأنينة والسكينة والاستقرار النفسي، وأن يقوم كل واحد بدوره، وأن نلتمس من المعرفة أدوارنا المناطة بنا من دون تهويل أو شماتة، ولنا في العلماء من أهل الرسوخ عبرة، ممن كانوا -ولا يزالون- يؤدون دورهم، ويحترمون تخصصات الآخرين، ولا يتجاوزون حدودهم في مثل هذه الأزمات، ففي إحدى الملمات الكبرى التي نزلت بالشام، ألف شيخ القراء الإمام ابن الجزري كتابه «الحصن الحصين»، جمع فيه الأدعية النبوية الواقية من الشرور والمحن، وفي أحد الأوبئة التي نزلت بالناس أيضًا في القرن الثامن الهجري، ألف عالم آخر يدعى محمد المنبجي، كتابه «تسلية أهل المصائب» يُطيب فيه خواطر المصابين، ويواسيهم، ويرسم للناس خطوات تجبر كسر نفوسهم، فأقل وظائف العلم أنه يَصدُّ صاحبَه عن الخوض فيما يجهلُه. ولا يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب.
*المدير التنفيذي للشؤون الإسلامية في الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف