إمكانية رؤية انتخاب بيرني ساندرز رئيساً للولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، لم تعد ضرباً من ضروب الخيال، وإنْ لم تكن بكل تأكيد يقيناً، ولكن أن يكون على رأس القوة الأولى في العالم رئيس مختلف لهذه الدرجة عن كل الرؤساء السابقين، لا يمكن إلا أن يؤدي إلى صدمة قل نظيرها في التاريخ.
سيكون ذلك ثورة استراتيجية عالمية حقيقية، بكل بساطة نهاية سياسة خارجية تقودها الولايات المتحدة منذ 1945.
فمن 1945 إلى 1990، كانت سياسة القوة التي انتهجتها الولايات المتحدة مبررة بمكافحة الشيوعية، ومصحوبة بدعم لأنظمة ديكتاتورية والإطاحة بحكومات تقدمية باسم هذا الهدف. وبعد 1990، نُفّذت تدخلات عسكرية كارثية باسم الهيمنة الليبرالية، والرغبة في مكافحة الإرهاب، وهدف نشر الديمقراطية، وإذا كان دونالد ترامب قد تخلى عن التدخلات العسكرية، فإنه لم يتخل أبداً عن مبدأ القوة الذي تدير بموجبه الولايات المتحدة العالم بطريقة أحادية من خلال العقوبات الاقتصادية، باختصار، لقد أعيد استخدام سياسة القوة إلى حد كبير من قبل الولايات المتحدة، في ما مثّل في أحيان كثيرة انتصاراً للقوة الصلبة على القوة الناعمة الأميركية.
كان ساندرز يرغب في ممارسة زعامة الولايات المتحدة، من خلال الجاذبية وإعطاء القدوة أكثر منهما من خلال القوة والإكراه.
وفي هذا الصدد، قد يحرر ساندرز الأوروبيين من الوصاية الأميركية التي لم يتمكنوا من التخلص منها بأنفسهم، وقد يفتح الطريق أمام علاقة عابرة للأطلسي قائمة على شراكة حقيقية، وليس على خضوع وتبعية.
ولئن كان سينتقد الصين من دون شك على صعيد حقوق الإنسان وممارسات تجارية، فإنه لن ينخرط في مواجهة معها من أجل الهيمنة.
ويمكن أيضاً أن يقوم حقاً بالضغط على زر «إعادة ضبط» مع روسيا، فجزء كبير من الشراسة والعدائية الروسية تجاه الغرب مردها إلى الشعور السائد في روسيا بأن الولايات المتحدة عاملتها كبلد مهزوم في نهاية الحرب الباردة وأنها كانت تريد إذلالها، ولكن «ساندرز» سيكون بعيداً كل البعد عن هذا المنطق، وإن كان سيبقى مهتماً بمسألة حقوق الإنسان، ولكن على الأقل، مع «ساندرز»، لن يُنظر إلى موسكو على أنها من بقايا تهديد وجودي يجب محاربته إن رفض الخضوع والاستسلام.
أما في الشرق الأوسط، فإن نهاية الدعم غير المشروط لإسرائيل ستعيد خلط الأوراق في المنطقة، بيرني ساندرز كان قد أعلن أنه فخور بأنه يهودي، ولكن هذا لا يمنعه من القول إن نتنياهو عنصري رجعي، ولا شك أن إسرائيل ستظل القوة العسكرية الكبرى في المنطقة، مزودة بالسلاح النووي، وأمنها العسكري لن يتغير، غير أن ضمانة دعم منهجي من قبل الولايات المتحدة هي التي كانت تدفع إسرائيل إلى عدم قبول التنازلات التي لا تريد تقديمها.
باختصار، ستحدث ثورة استراتيجية عالمية شبيهة بتلك التي حدثت مع وصول ميخائيل جورباتشوف إلى السلطة في الاتحاد السوفييتي، غير أن جورباتشوف فشل في إكمال إصلاحاته، فقد أنهى الحرب الباردة، ولكنه فقد السلطة، وبعد 1991، لم يقم النظام العالمي الجديد الذي كان يحلم به نتيجة القناعة الأميركية بتأسيس عالم أحادي القطبية، بيد أنه إذا كان جورباتشوف قد فشل، فلأنه لم يكن يملك الإمكانيات اللازمة لتنفيذ سياسته، أما بيرني ساندرز، فستكون لديه تلك الإمكانيات، نظراً لأنه على رأس بلد غني، ليس في حاجة إلى مساعدة خارجية من أجل النجاح.
غير أن عدداً من العراقيل تعترض طريقه، أولها وأبرزها مؤسسة الحزب «الديمقراطي» التي تعارضه بشكل جوهري، والتي ستفعل كل ما في وسعها حتى لا يفوز في الانتخابات، فمنذ «الثلاثاء الكبير» (3 مارس 2020)، بات الشعار على داخل المعسكر الديمقراطي هو «أي أحد إلا ساندرز»، وهكذا رأى جو بايدن تهاطل الدعم عليه، ويمكن أيضاً القول إن الدولة العميقة والبنتاجون سيجدان صعوبة في قبول انتخابه، الذي قد يعني خفضاً خطيراً لميزانيته ولدوره الرئيسي في رسم السياسة الخارجية الأميركية، وسيُتهم ساندرز بالرغبة في «التخلي عن الحذر واليقظة».
من ينبغي انتخابه من أجل هزم دونالد ترامب؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه «الديمقراطيون». لقد فاز دونالد ترامب في 2016، من خلال كسره كل القواعد، فهل ينبغي اختيار مرشح من الطينة نفسها لمواجهته، مرشح غير تقليدي مثل بيرني ساندرز؟ أو هل ينبغي طمأنة الناخبين الوسطيين، واختيار مرشح معتدل مثل جو بايدن من أجل مواجهته؟ الجواب سنعرفه هذا الصيف على أبعد تقدير، وفي غضون ذلك، تستعر المعركة الانتخابية بين المرشحين اللذين ما زالا في السباق، ساندرز الراديكالي وبايدن المعتدل.