تشكل «الأسرة» أساس البنية المجتمعية السليمة، ومعول التغذية للجذر الثقافي والإطار الفكري لأفرادها، فمن خلالها يدخل وينسجم الفرد مع ثقافة عصره وبيئته المحيطة، ممتلكاً مفاتيح المعاملات والثقافات والأنماط الاجتماعية السائدة، مستعداً لتمثيل نموذج كفء وسوي، متشبعاً بـ«عطاءات العائلة» من توجيه الأفكار، وصون الهوية من فرص الاستغلال، أو التحوير.
إن الحفاظ على المعايير الاجتماعية هو صون للمصلحة العامة، ولكينونة «التعايش والتسامح» وحفظ الهيكلة السليمة للدول، وهي ما أصدره الميثاق الاجتماعي الأوروبي، واعتمده ولا ينفك يعمل بموجبه، فـ«الأسرة» أول ما يمكن الحديث عنه في سياق المؤسسات التربوية، إذ تتربع على قمة العوامل المنشئة للقيم الأخلاقية، والمنظومة الثقافية، كما تعتبر الأسرة «كتفاً» تستند عليه كافة المؤسسات الاجتماعية الأخرى، فهي الأسبق من حيث الظهور، والقائمة منذ أمد طويل على تحقيق الوظائف الاجتماعية، حتى بوجود المؤسسات التربوية المساندة، مثل المدارس، ووسائل الإعلام، والأندية، وغيرها، محققةً ما عليها من مسؤوليات مساندة للدور الأسري المتركز في المراحل الأولى لتنشئة الطفل، وهي «الأهم».
قال المصطفى: «أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، فإلى جانب ما يترتب على هذه المؤسسة التربوية من وظائف، كالوظائف البيولوجية «الإنجاب وزيادة أعداد أفراد المجتمع»، وتقديم الأسرة العون لفئة المراهقين، سعياً لتحقيق التكيف مع «مرحلة البلوغ»، والمخزون المعرفي اللازم لاستكمال رحلة الزواج وتكوين أسرة جديدة، فإن دورها في «التحصين الفكري»، وفتح نوافذ التفكر والنقد البناء يعتبر نقطة مركزية، يترتب عليها ما يكون عليه الفرد في مستقبله، لتحكم على طبيعة العلاقة بينه وبين أفراد مجتمعه.
ولا ننكر الدور الهام الذي تقوم به وسائل الإعلام والأندية الثقافية، والمدارس، والجامعات، من إثراء للفكر وتوعية وتوسيع المدارك، لكن تبقى «الأسرة» هي النظام المتناغم مع الفطرة الإنسانية المجبولة على التعايش والتواجد ضمن مجموعات، «فالأسرة نظام اجتماعي تربوي، ينبعث عن ظروف الحياة والطبيعة التلقائية للنظم والأوضاع الاجتماعية، وتبرز أهمية الحفاظ على هذه المؤسسة مترابطة متحدة، في تمكينها من أن تكون أداة ناجعة في التصدي للتحديات الساعية للعبث في نهضة المجتمعات، من خلال أفرادها».
كما تقوم الأسرة برعاية الأشخاص ضمنها، من أطفال ومسنين، من حيث الغذاء، والكساء والإيواء، والرعاية الصحية، والاجتماعية، ووسائل الحماية، إضافةً لدورها في الحاق الأطفال في المؤسسات التعليمية، لاكتساب الخبرة المرجوة منها، واستكمال طريقه المعرفي بمعونة الأسرة والكوادر التعليمية والأكاديمية، ويقع على عاتق الأهل تأمين الاحتياجات الأساسية والثانوية، كالترفيه، الذي من الممكن جداً حالياً أن تقدمه عدة جهات أو مراكز ومؤسسات مختصة مساندة.
يتربع أحد عناصر المؤسسة الأسرية على عرش التأثير الحقيقي في كافة المجالات، كما يقوم بعدة أدوار«غير قابلة للتفويض»، وهي«المرأة»، أو«صمام الأمان» في هذه المؤسسة، والعامل الأبرز في تثقيف أفراد الأسرة، وتوعيتها بالتحديات التي تواجه المجتمع، وتتولى هي مسؤوليتها في بناء وتنمية الأسرة، ومقاومة الأفكار الهدّامة، وتحصين نفسها وتحصين أبنائها ومن تحت مسؤوليتها من الأفكار المتطرفة، فالمرأة هي الأم والأخت والابنة والحاضنة ومربية الأجيال أسرياً وأكاديمياً وغيرها، فالمرأة عنصر مؤثر وعنصر قوة في المجتمعات، يعمل على تعزيز السلوك الحضاري والأخلاقي، والمرأة هي الموجه الأساسي في إعداد وتهيئة الأسر وتدريبهم على كيفية توفير البيئة الأسرية الصالحة لتنشئة الأبناء تنشئة صحيحة، ينتج عنها تربية جيل صالح نافع لمجتمعه ووطنه، فضلاً عن الفكر والسلوك الوسطي الإسلامي.
إن موضوع «الأسرة» في المجتمعات كافةً والمسلمة خاصة، يتطلب تكثيف العناية، وتسليط الضوء على سبل توثيق الروابط فيما بينها، ومنحها الحيز المناسب لها، فهي المدرسة الأولى والأكثر أهمية، ومنها ينهل النشء سماتهم وأنماط تفكيرهم، ومنها يضع الفرد معظم تصوراته وانطباعاته عن الحياة، والآخر، والشريعة، والوطن، وغيرها الكثير، مما يجعل المؤسسات تقف في حيز عالي المسؤولية، نحو الأسر التي تشكل المجتمع، والتي يصلح بصلاحها، ويفسد بفشلها، ومن هنا يكون القرار برسم هيكلة المجتمعات، فتَبني الأسر وصائلها كخلية نحل، أو تبقى كبيت العنكبوت!