حين تفشل السياسة، تكون الحروب هي البديل، والمفارقة أن الحروب تعود إلى حضن السياسة كي تجد نهاية للحرب أو مخرجاً منها، ولكن الخطير في الأمر حسب ابن خلدون، أن المغلوب في السياسة والحرب يصير مولعاً بتقليد الغالب، وسر ذلك أن المغلوب يفقد ثقته بنفسه، ويحيل هزيمته إلى ضعفه في معتقده وسلوكه، فيبدأ بجلد ذاته، ثم يتخلى عن هويتها، وينتحل هوية الغالب، ويصير مقلداً له، حتى يذوب في كيانه..
لكن الغالب لا يطمئن للمغلوب، ويخشى من صحوته وانتفاضته، ويبقى حذراً من المغلوب ومن انتقامه، ويحرص على أن يبقيه في مكانة التابع، ويقبض بيده على كل ما من شأنه أن يتيح للمغلوب عودة الوعي، لكن الوعي مكنون في أعماق وجدان المغلوب، حيث يبقى وميض شرارة تتوهج تحت الرماد، تنتظر نسمة من هواء نقي يبث فيها الحياة فتشتعل.
أليس مدهشاً أن يستمر الصراع بين الشرق والغرب قروناً تبادل فيها الطرفان موقعي الغالب والمغلوب، ومن المفارقة أن يكون العراق مسرح أقدم حروب التحرير في التاريخ الإنساني، حتى إن صموئيل كريمر قال (التاريخ يبدأ من سومر) وما يزال العراق يخوض إلى اليوم معارك التحرير، ورغم أن الحروب تولد ثقافات بعد انتهائها، فإنها تحتفظ بالخصوصيات، فالإسكندر المقدوني أعظم القادة العسكريين في التاريخ القديم نشر ثقافة الهيلينية الإغريقية القديمة، وهذه الثقافة تطورت إلى الهلنستية التي سرعان ما باتت أم الثقافات وأسست حضارة جديدة ولدت في الإسكندرية، وسرعان ما انتشرت في بلاد الشام، وقد أخذت الكثير من الثقافات المحلية ومزجت الشرق بالغرب، لكن هذا المزيج حافظ على أصوله وتنوعاته، فاليهودية ذات العراقة الدينية والمكانة السياسية في عهد البطالمة في مصر، لم تستطع أن تهضم الثقافة الهلنستية وخصوصياتها الفلسفية، ولكنها كذلك لم تستطع إيقاف المد المسيحي الذي جاء بعد ثلاثة قرون تقريباً من موت الإسكندر.
وقد يبدو خطأً أن نعتقد أن التاريخ يعيد نفسه، لكن المسألة الشرقية لم تبدل اتجاهاتها إلى اليوم، فبعد أن اكتسح الرومان عالمنا الشرقي ومزجوه بعالهم الغربي، وبعد أن تمكنت بلاد فارس من استعادة مكانتها التي حطمها الإسكندر، وجد العرب أنفسهم مغلوبين أمام الطرفين، وسطت إمبراطورية الفرس الساسانيين على مناطق الخليج العربي، ودانت لها مملكة المناذرة اللخميين التنوخيين، وكذلك فعل الغساسنة وهم من الأزد، بإعلان ولائهم لبيزنطة، لكن ظهور الإسلام أطلق الخصوصية العربية، وبدأت حرب التحرير، التي مكنت العرب من استرداد فضائهم الجغرافي والديموغرافي، وتوسعوا إلى خارج حدوده فحكموا آسيا الوسطى شرقاً إلى حدود الصين، وجنوب إسبانيا إلى جنوب غاليا (فرنسا) غرباً، وبوسع الباحث أن يفهم أن الحروب الصليبية جاءت رداً على هذا التوسع، وأن الهجوم المغولي التتري كان رداً على الفتوحات الإسلامية في الشرق، لكن ما حدث في الحملة المغولية كان فريداً، حيث سرعان ما دخل المغول (وحفاؤهم من شعوب آسيوية شتى) في الإسلام، وأقاموا ممالك إسلامية ضخمة في الشرق الآسيوي.
وحين سقطت الدولة الأموية في دمشق، نهضت دولة أموية في الأندلس وتحولت إلى منارة أسهمت في النهضة الأوروبية، واستمرت نحو ثمانية قرون، وانتهت بحرب الاسترداد، وكان من المفارقات أن يتقارب زمنياً سقوط القسطنطينية ( 1453) مع سقوط الأندلس (1491).
مرة أخرى أقول إن التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه للأسف يتابع مسيرته، ومع التقدم الحضاري الضخم الذي حققته البشرية، ومع ظهور العولمة وثورتي الاتصال والمعلوماتية، واتفاقيات التجارة الدولية وما يشاكلها من ظهور تحالفات كونية مزجت جهات الأرض الأربع، ومع تحول العالم إلى قرية كبيرة، تجد الشعوب من حقها أن تسأل: أما آن للبشرية أن تنتهي من الحروب، وأن تعتمد السياسة وحدها حلاً لمشكلاتها وقضاياها..
وبوصفي (سورياً، إدلبياً) أسأل بحرقة الفاجعة: هل يعقل أن يفشل العالم في إيجاد حل، سوى الحرب، لقضية إدلب الراهنة التي يعيش فيها نحو أربعة ملايين إنسان مهددين بالموت، ونصفهم اليوم مشردون في الحقول وفي البراري في صقيع البرد بلا غذاء أو غطاء أو دواء وبلا ماء؟ ألا ترون أن العالم اليوم يعيش على شفا حفرة من السقوط في هاوية الحرب المريعة؟