جميل ما يُحَمِله أصحاب القرار على مستوى المؤسسات لأنفسهم، من مسؤولية وتخطيط وإنجازات، كما لا يمكن تجاهل ضرورة المسؤولية الجمعية، الواقفة بحزم وراء معظم الإنجازات الهادفة للإصلاح والتغيير، وقبل كل ذلك فالمشروع الإصلاحي بأساسه يبدأ بتغيير الإنسان، ثم بتعليمه الانخراط والتعايش في المجتمع بمختلف مكوناته، ثم بالتنظيم المدني والدعم المنشود، فالنقد البنّاء، وبرأيي هذا المتأثر بمنظور المفكر الجزائري مالك بن نبي، أوكد ما على الأفراد أنفسهم من مسؤولية، وهذا أصل متجذر في كافة المجالات المتجهة نحو إرادة التغيير، وقوة التغير.. أو ليس «الفكر» أولى عتبات التحول من طريق إلى آخر؟
«إنها لشرعة السماء: غيّر نفسك تغير التاريخ»، قالها ابن نبي، وما زالت تثبتها الأحوال وتقلباتها على مر العصور، فالإنسان هو الكائن الأقدر على تحويل الخوف المتصاعد عند رؤية صورة طفل على مواقع التواصل الاجتماعي، من قلق أن تكون الصورة تعريفاً بأحد الضحايا، إلى بشرى بإنجاز أو ابتكار أو إبداع لا تزال تخطه أنامل في أحد الصروح العلمية.
إن الحاصل في المجتمعات عامةً، والمسلمة خاصةً، يتشعب لعدة أسباب تضع المسلمين قسراً داخل إطار المنظومة الفكرية «الضحية»، لكنهم يستطيعون إنصاف أنفسهم وتحقيق إرادتهم تحت مظلة «الولاء لأوطانهم» وحبها، فالالتزام يبدأ من احترام السلطة العامة، والقيام بالواجبات بالتوازي مع نيل الحقوق، ومع ذلك يتعين الإبقاء على حبل الوصال، وصون الهوية السليمة القائمة على الاعتدال والوسطية، والداعية لتعزيز قيم التعايش والتسامح بين أبناء المجتمعات.
إن احترام الفرد للنسيج المجتمعي، يكون بإقامة الاعتبار لتنوعاته، وعدم التلويح برفض «المختلف» فيه، والتركيز على العمل وبناء الذات ورفع قيمتها، من خلال الاستزادة من كل ما يجعل من الفرد المسلم نموذجاً وقدوةً تشهد له أفعاله، فالمسلم لا يجنح لفرض آرائه وعقيدته، بل ينبذ كل ما يتصل بالتطرف والغلو، ويمثل حاجزاً دون كل ما يتصل بالتحريض ضد الآخر، متخذاً من هذا الآخر شريكاً ومعيناً في بناء وعمران الأرض، التي جمعت واحتضنت وضمنت حقوقهما معاً، وبذلك تصبح المجتمعات المسلمة أساساً للحمة البلدان، ومنع النزاعات، وتجميع ثوابت السلم والوئام، على عكس ما يُلصَق بها زوراً وبهتاناً.
وباعتبار ما لذلك من احتياجات والسعي لإنجازها، سيصطف «الوعي الجمعي» متحداً إزاء «متصدري» الشعارات، مانحاً ثقته لدعاة الخير، بجعل «الإنجاز» معياراً يراهن عليه، لا التنظير والحشو الذي تطاول أصحابه على نصوص الشريعة، لتطويعها خدمة لمصالحهم الحزبية، دون إقامة اعتبار لما ينتج عن ذلك، إن واجبات المجتمعات المسلمة تبدأ من العمل على نشر قيم التعاون فيما بينها، وتأكيدها على المبادئ الإسلامية السمحة، وتجاوز «عقدة التحجر» على «دين العادات»، و«شريعة التقليد» التي تسيء لرسالة الإسلام، وتدعو للتجمد الفكري حول مفردات العرقية والمذهبية والطائفية، بدلاً من معايير الاندماج التي تفتح آفاق المستقبل المزدهر بالفكر لصالح المجتمعات والأوطان.
إن المجتمعات المسلمة اليوم تمثل «فرصة» الغد المشرق، الزاخر بالحوار والتفاهم والتعايش، بعيداً عن «سفاسف الفروقات» التي شتتت انتباه أجيال وأهدرت طاقاتها.. سعياً لتحقيق مشترك المصالح، ولازدهار العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وأخيراً، لا بد من الاعتراف بأن الحل يبدأ من ذات المعضلة، وهي ما يحمله الفرد في منظومته الفكرية من تراكمات معرفية وتجارب إنسانية وأعراف وتقاليد، وبأن الكثير من الدراسات والأبحاث تنزع لمعالجة أسباب شكلية بعيدة عن لب الأزمة، فالوضع الذي يمر به العالم لا يحتاج لمعالجة الأعراض، بل لاجتثاث الفيروس، فالسياسي يرى المشكلة سياسية.. ورجل الدين يرى الحل بإصلاح العقيدة، ومضاعفة الوعظ.. والإعلامي يعتبر أن السبب هو البعد عن المهنية.. بينما الحقيقة هي أن «الفكر البشري» ذاته هو الداء والدواء في آن واحد، وما تبقى من تشعبات مجرد مكملات، تؤول لثروة أو كبوة!

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة