الأوبئة والتغيّر المناخي كابوسان حقيقيان يقلقان العالم، خاصة أن احتمالية حدوثهما حتمية وقائمة طوال العام، وهما التهديد الأكبر لجميع الدول حيث ليس لحكومات العالم القدرة على التحكم في مدخلاتهما، ولكن بالتخطيط العلمي المبتكر والذكي يتم التخفيف من آثار تبعاتهما، حيث يعدّ الأمر مسألة بقاء واختيار طبيعي للنوع البشري الذي سيصمد في وجه تحديات الطبيعة، وهو بمثابة مضمون وجوهر الأمن الوطني والقومي والدفاع الوطني للأمم في العشرين سنة القادمة.
وتمثّل الجائحات خطراً كبيراً على الحياة والاقتصاد والأمن في عالم تزداد فيها مظاهر العولمة، وقد زاد تأثير الأمراض الوبائية بشكل كبير، إذ أصبح العالم أكثر ترابطاً ببعضه بعضاً، حيث تقوم شركات الطيران سنوياً بنقل أكثر من 20% من تعداد السكان في العالم، وقد زادت وتيرة الهجرة والتجارة على الصعيد العالمي بشكل كبير في العقود الأخيرة، مما رفع من خطر تفشّي الأمراض المعدية على الصعيد العالمي، ومن هذا المنطلق فإن انتقال الأمراض بين القارات غدا أمراً لا مفرّ منه، وتعتبر الأمراض المتفشّية في أية دولة في العالم تهديداً مباشراً للأمن الداخلي للدول الأخرى وهو امتداد لأمنها الوطني.
ولتحقيق الازدهار والرخاء تحتاج الدول لأن يتمتع سكانها بصحة جيدة، بالإضافة إلى سكان الدول الأخرى التي تعتبر أسواقاً لها، ومصانع إنتاج مكملة مربحة ومصدراً للكثير من المواد الخام التي تحتاج لها، وأن لا تنتشر بها الأوبئة حيث تتأثر سلسلة التوريد والتموين في العالم بظهور الأوبئة، ولذلك فتفشّي فيروس خطير في أية بقعة في العالم هو تهديد للمجتمع الإنساني ككل وأحد أكبر التهديدات للاستقرار والأمن العالميين.
فهل اتعظّت البشرية من الدروس والعبر المستفادة من التهديدات العابرة للحدود الوطنية في الماضي؟ أم أن معظم حكومات العالم كانت متجهة في الاتجاه الخاطئ بهذا الخصوص؟ وبالتحديد، في إهمال النظر إلى الأمراض المعدية في سياق الأمن الوطني، وتقييم الحاجة إلى المعلومات والسيناريوهات الكبرى التي ستمكّن صانعي السياسات من رسم الخطوط العريضة للوقاية الاحترازية من هذه التهديدات، وللاستعداد الأمثل للتصدي لها ومراقبة الأمراض المعدية في جميع أنحاء العالم، أم يقتصر الدور على رد الفعل والبحث عن الحلول بعد التعرّض المباشر للخطر؟ وهل خصصّت كل دولة قادة ومسؤولين عن كل تهديد بالتحديد وعلى حدة على مدار الـ 24 ساعة في اليوم؟ حيث إن كل تحدٍ يتطلّب استعداد واستجابة ومقدرات وموارد خاصة، وذلك على شاكلة إدارة مديرية التأهب والاستجابة للجائحة داخل مجلس الأمن القومي الأميركي، وهي وحدة مخصصّة للإشراف على التأهب للأوبئة، ولكن في عام 2018، تم تفكيك تلك الوحدة والآن تسابق الحكومة الأميركية الزمن لإعادة بنائها ونشر فرق خارج الحدود لمتابعة الأمراض المعدية الناشئة.
وفي حين أننا لا نستطيع التنبؤ بالضبط بموعد أو مكان بدء الوباء أو الوباء التالي، نجد أنه العالم العربي عرضة لخطر الأمراض المتفشية محلياً التي تتحول إلى أوبئة عالمية، بعد زيادة خطر مسببات الأمراض المعدية المنتقلة من الحيوانات إلى البشر، وبروز فيروسات جديدة مقاومة للمضادات الحيوية ولقاحات الفيروسات الحالية، إلى جانب تهديد أعمال الإرهاب البيولوجي، وضعف البنى التحتية للصحة العامة، وضعف شبكات المختبرات لتحديد سبب المرض بدقة ومراكز تطوير لقاح فعال، وعدم وجود قوة عاملة مدربة كافية لتحديد هذه الفيروسات وتعقبها واحتوائها، ولذلك يجب على البعض أن يكونوا متواضعين ويعترفوا بمحدودية ما يعرفونه وما لا يعرفونه عن أي فيروس جديد.
وعلى الرغم من أن موجة تفشي الأمراض لها بداية ونهاية محددتان، ولكن لا توجد حملة أو موجة فيروسات تأتي وتختفي ومن ثم تغلق النافذة، وهناك وقت كافٍ لبناء القدرة على الصمود في الأنظمة الصحية دون أمراض وتحديّات جديدة طوال الوقت، ولهذا هناك حاجة ملحّة لعلماء الأوبئة الميدانيين، ونمذجة الأمراض المتفشية والتعرف المبكر عليها، وينبغي أن يكون هناك لعلماء وخبراء ومخططي استراتيجيات الوقاية الصحية وإدارة مخاطر الأوبئة مقاعد دائمة في اجتماعات مجالس الأمن الوطني لاتخاذ قرارات بشأن الصحة العامة، ومن يحصل على اللقاحات أولاً وكيفية توزيعها، وهل يحصل المستجيبون الأوائل والعاملون في القطاع الطبي على اللقاحات في وقت أبكر من بقية السكان، وتوطين إنتاج اللقاحات ومضادات الفيروسات من خلال بناء قدرات تصنيع الأدوية بقيادة الاستثمار المدعوم من الدولة، وبناء نظام لتبادل المعلومات يقوم على الثقة والشفافية والسرعة والشمولية واتخاذ الخيارات السياسية الجريئة التي يمكن أن تنقذ الأرواح، ويجب اتخاذها لمنع تفشّي المرض بناءً على آراء مستقلة من طرف ثالث يرفع توصياته بعيداً عن الضغوط الخارجية والداخلية، وخوفه من أن يفقد وظيفته أو من أن يسبح عكس التيار.